القطاع الخاص بين الحماية والمنافسة
د. خالد عبد النور
1 – 1. تطورات القرن العشرين
1 – 2. اقتصاد التنمية
1 – 2 – 1. الدولة المحققة للتنمية
1 – 2 – 2. الدولة التابعة الأمجدية
1 – 2 – 3. العودة إلى السوق وتراجع دور الدولة
1 – 2 – 4. الخيار الأفضل
ثانياً: القطاع الخاص في ظل الحماية
2 – 1. في الاستثمار
2 – 2. مؤشرات التجارة الخارجية
2 – 3. في الصناعة التحويلية
2 – 4. إيجابيات و سلبيات الحماية
ثالثاً: القطاع الخاص في ظل المنافسة
3 – 2 – 2. تكوين وتدريب الموارد البشرية
3 – 2 – 3. الإدارة الكفوءة والجودة
3 – 2 – 4. التكافؤ في شروط العمل بين سورية والدول العربية الأخرى
4 – 1. البنى التحتية
4 – 2.تكوين الموارد البشرية
4 – 3.تطوير الجهاز المصرفي
4 – 4.البنية التنظيمية والإدارة الكفوءة
4 – 5.الهيئة العامة للاستثمار
القطاع الخاص بين الحماية والمنافسة
د. خالد عبد النور*
لا يمكن الحديث عن القطاع الخاص القائم في ظل الحماية، ووضعه المعياري (أي ما يجب أن يكون عليه) والوضعي (أي ما قد سيكون عليه) في ظل المنافسة إلا إذا اتضح لنا بداية الدور الذي سيلعبه مستقبلاً في عملية التنمية. وهذا يستدعي حل إشكالية المفارقة والمواجهة بين القطاع العام بمعناه الشامل، بما في ذلك تدخل الدولة إلى هذا المدى القصير أم ذاك البعيد، من جهة وبين القطاع الخاص وإلى أي حد يقع عليه العبء في مسيرة التنمية المستقبلية من جهة أخرى. وعلى هذا فتعالج هذه الورقة المحاور التالية: إشكالية العام والخاص أولاً واقع القطاع الخاص في ظل الحماية ثانياً والقطاع الخاص تحت ظل المنافسة ثالثاً وتطوير مناخ الاستثمار رابعاً.
أولاً: إشكالية العام والخاص
1 – 1. تطورات القرن العشرين
سادت سياسات الحرية الاقتصادية في القرن التاسع عشر كرد فعل على سياسات التدخل المسرفة التي سيطرت في القرن الثامن عشر، مجسدة لنظريات "آدم سميث" كما عرضها في كتابه الشهير "ثروة الأمم". وإذا كانت سياسات الحرية لا تزال قائمة في مطلع القرن العشرين فإن هذا القرن قد عاش كافة التجارب المرتبطة بجميع النظريات الاقتصادية الممكنة، لينتهي كما بدأ إلى ليبرالية اقتصادية مطورة ومحدثة. وبالفعل كان نظام الأساس الذهبي Gold Standardفي فجر القرن العشرين يشكل ركيزة السياسة النقدية ضامنة استقرار الأسعار على المدى الطويل، وكانت حرية التبادل التجاري هي الأساس، وميزانيات الدول متوازنة من حيث المبدأ، وإجمالي النفقات العامة متواضعاً، وبالمقارنة مع نهاية القرن المذكور، إذ لم تتجاوز 8% من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة الأمريكية و12% في فرنسة و13% في المملكة المتحدة و18% في ألمانية. غير أنه في بداية العقد الثاني قامت رياح التغيير في الاتجاه المعاكس، وكانت أولى مظاهرها في قطاع التجارة، حيث اعتمدت القوتان الاقتصاديتان الرئيستان ألمانية والولايات المتحدة اللتين كانتا في أوج نموها، سياسة حمائية، إذ بلغت الرسوم الجمركية في الولايات المتحدة سنة 1913 على المنتجات المصنعة 40%. وراحت سياسة "دعه يعمل" تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد الحربين العالميتين وفترة الكساد الاقتصادي الأكبر في الثلاثينيات. إذ انتهى نظام الأساس الذهبي وتخلت المملكة المتحدة عن حرية التجارة، وانخفض نصيب التجارة الدولية في الفعالية الاقتصادية بصورة ملحوظة وتزايدت كثيراً نسبة الإنفاق العام من الناتج المحلي الإجمالي، وحتى في فترة السلم، وتصاعد تدخل الحكومات في تسيير اقتصاديات بلادهم. واقتصر الخلاف على تحديد المدى الذي يمكن فيه للحكومات الانحراف عن معايير اقتصاد السوق لتقوم بمسؤولياتها الجديدة. وشاع في الدول المصنعة أمريكة الشمالية وأوربة الغربية ما عرف بالوفاق الكينزي، المستند إلى نظرية "كينز" المعروفة في كتابه الأشهر في هذا القرن: النظرية العامة للاستخدام والفائدة والنقود. وتبعاً لهذه النظرية فمن الجوهري أن نولف بين اقتصاد السوق وإدارة فعالة للطلب الكلي من خلال الموازنة والسياسة النقدية لتوفير الاستخدام الكامل. على أن يتواكب ذلك مع التجارة حصراً دون حرية تدفق رؤوس الأموال. وانطلاقاً من ذلك حقق العالم، خلال ما يقارب الثلاثة عقود، فترة لم يعهدها من قبل إذ بلغ معدل النمو العالمي 5% بين 1948 و1973. ولكن هذا العصر الذهبي انتهى مع موجة التضخم، وتصاعد البطالة في السبعينيات، والإقلاع عن نظام سعر الصرف الثابت للعملات الوطنية الذي كان يديره صندوق النقد الدولي. وكما انزاحت سياسات الحرية الاقتصادية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر ليحل محلها الوفاق الكينزي، فإن هذا الأخير واجه ثورة مضادة من قبل النظرية النقدية لـ "ميلتون فريدمان"، الذي يؤكد أنه يستحيل تخفيض البطالة باستمرار من خلال تعاظم التضخم. وإن السياسة النقدية هي العنصر الحاسم في السياسة الاقتصادية. وعلى سياسات الموازنة أن تكفل دعم السياسة المذكورة على المدى الطويل.
ولكي نحصل على عملة مستقرة وارتفاع هام في الاستخدام، فعلى الاقتصاد أن يكون تنافسياً ومنفتحاً للتجارة الخارجية. وقاد هذا التوجه نحو إعادة الاعتبار للسوق، خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وكل من الولايات وبريطانية، الذي تمثل بموجه من الخصخصة، وتخفيض الضرائب وتحرير النظام المالي، وحرية تدفق رؤوس الأموال وإزالة التضبيط خاصة في الأسواق المالية وسوق العمل. ولم يبقَ خارج هذا التيار، خلال فترة بعد الحرب العالمية الثانية إلا كتلة الدول الاشتراكية والدول النامية –باستثناء النمور الآسيوية – الذين أخذوا عامة بنظام التخطيط المركزي وملكية الدول لوسائل الإنتاج، بعد النجاحات التي كان قد حققها الاتحاد السوفييتي في البداية، وانهيار التجارة العالمية وأسعار المواد الأولية. ولكن هذه التجارب انتهت إلى الفشل الذي نعرف. وبهذا انتهى القرن بعودة إلى الحرية الاقتصادية من حيث المبدأ. ولطالما أننا جزء من البلاد النامية فلا بد لنا من التعرف بعجالة على النظريات والتجارب التي مرت بها هذه الدول خلال النصف الثاني من القرن الفائت.
1 – 2. اقتصاد التنمية
يمكن تصنيف النظريات الخاصة بهذا الشأن في ثلاث:
1 – 2 – 1. الدولة المحققة للتنمية
ترى نظريات التنمية التي ظهرت في الخمسينيات، ضرورة توجيه حجم كاف من المعونات المالية الدولية لبلاد العالم الثالث، يتوفر معه حد من تراكم رأس المال تستطيع معه البدء بتصنيع حديث متسارع. وكان الاقتصاديون الغربيون ينتظرون من ذلك كسر الحلقة المفرغة للفقر أو بدء دفعة النمو الكبرى أو أحداث الإقلاع نحو العصر الصناعي. وبينما حرص الاقتصاديون الأنجلوسكون على قصر دور الدولة على مهمة التخصيص الفعال للاستثمارات في اقتصاد مفتوح، وأوصى زملاؤهم الأوربيون بتدخل متعاظم من الدولة في قطاع صناعة مسيّج بالحماية. إذ على دول العالم الثالث أن تعطي الأفضلية لاستثمارات عامة أحسن اختيارها في القطاع الصناعي مشفوعاً بالحماية، باعتباره القطاع الديناميكي من حيث آثاره وتساقطاته الاقتصادية على المجتمع، سواء من خلال قدرته على إحداث أثر الجر، (Hirschman) أو على إنشاء أقطاب التنمية (Perroux) أو قيام الصناعات المصنعة (De bernis). وسرعان ما أخذت دول العالم الثالث بهذا التوجه، باستثناء الندرة منها، وعلى الرغم من التناقضات الشديدة التي تفصل بين هؤلاء الاقتصاديين، إلا أنه من التبسيط المفرط، القول بأن الجميع متفق على إعطاء دول العالم الثالث دوراً تستطيع من خلاله إحداث التنمية الاقتصادية والاجتماعية عبر تحديث صناعي متسارع. وفي الوقت الذي لم يأبه فيه أنصار الاقتصاد الحر لعدم التساقطات الاجتماعية فوراً لهذا النمو إذ ستأتي لاحقاً وفقاً لظاهرة التساقط نحو الأسفل Trickle Downفإن الاقتصاديين الآخرين، أنصار تدخل الدولة، كانوا يثقون بالنخب السياسية الموجودة في العالم الثالث من حيث قدرتهم على تنفيذ هذه الاستراتيجية وتوزيع ثمارها على الجميع.
غير أن هذا الفهم يمثل حالة مفرطة من التمركز الأوربي حول الذات، بإسقاط التحليلات الاقتصادية الخاصة بالدول الأوربية على وحدات سياسية، أضحت دولاً لتوها، مهملة بهذا الشأن التجربة التاريخية التي مرت بها الدول المتقدمة في علاقتها بالاقتصاد والمجتمع، ومنكرة بذلك أهمية عامل الزمن الضروري لتراكم هذه التجارب وتبلورها بالصورة التي تعهدها.وقد تضخم هذا الخطأ بالتباعد الشديد بين جسامة المهمة الملقاة على عاتق هذه الدول، وبين هزال مواردها للقيام بها. ومن ثم تكون هذه النظرية قد خصت الدول المذكورة بدور تنموي شامل، لم تقم به فيما مضى أي دولة غربية بهذا الحجم وبهذه السرعة. وبالفعل فقد اتضح بعد أن النخب السياسية والاقتصادية في الدول الأفريقية مثلاً، لا تستهدف بالضرورة وضع استراتيجية للتنمية، وليست بالضرورة من أنصار ذلك. فتلك النخب سخرت الجهاز البيروقراطي للسيطرة على القطاع الاقتصادي بغية الاستحواذ على ريع يغنيها ويعن مواقعها. بل وأكثر من ذلك كانت، في الغالب، تجد في صياغة استراتيجية للتنمية الحقيقية تهديداً لمصالحها الريعية. في بلد توفر له الحد الأدنى من الطابع المؤسسي كالبرازيل فإن القسم الأعظم من ثمار النمو قد ذهب إلى الفئات العليا وليس إلى كل أفراد المجتمع. وباختصار فإن أصحاب هذه النظرية تصوراً إطاراً وهمياً للتنمية، حكم الواقع المعاش بزيفه.
1 – 2 – 2. الدولة التابعة الأمجدية بدأت مع نهاية الستينيات، حيث ظهر فشل النظرية السابقة، موجة من النقد التي ترفض أصلاً إمكانية تنمية العالم الثالث ما لم يطرأ تغير جذري على طبيعة العلاقة بينها كدول تتوضع على تخوم وبين الدول المصنعة التي تحتل مركز الدائرة، وذلك انطلاقاً من ثنائية المركز/التخوم التي قام بتطويرها (Prebisch). وراح أنصار نظرية التبعية يبرزون العلاقة السببية بين نمو دول المركز وتخلف دول التخوم، مرتكزين على قسمة العمل الدولية اللامتكافئة. فالبعض يعزي هذه الحالة إلى دور الشركات متعددة الجنسية في إفشال سياسة الإحلال محل الواردات وترسيخ هذه التبعية، والبعض الآخر يرجعها إلى التحالف الموضوعي بين الفئات الحاكمة في دول التخوم ومصالح ول المركز، بينما يدفع الآخرون بهذا التحليل إلى مداه الأقصى، حيث لا مناص من أن ينتهي الأمر بتنمية التخلف في دول التخوم. لأن هذه الدول، التي ليست إلا بنى فارغة أو هزيلة تحكمها فئات ترتبط مصالحها بتلك الخاصة بالفئات المسيطرة في دول المركز، لا تمثل أكثر من مسننات لا حول لها في آلة الاقتصاد الدولي الضخمة. وهي من ثم ليست أكثر من دمى في يد دول الشمال المصنعة.غير أن هذه النظرية حصرت نفسها في منحنى اقتصادي محض، غير آبهة بالعوامل الأخرى والسياسية منها على وجه الخصوص ومهملة لدور الطبيعة السياسية لدول الجنوب وتطلعات النخب الحاكمة فيها. ولكنها، في الوقت ذاته فقدت مع أواخر السبعينيات مصداقيتها على أرض الواقع الاقتصادي نفسه، إذ أثبتت نجاحات النمور الآسيوية بطلانها، وليس بسبب تيار فكري معاكس.
1 – 2 – 3. العودة إلى السوق وتراجع دور الدولة بعد انحسار نظرية التنمية سالفة الذكر ونزول ما سبق تسميته بـ "الوفاق الكينزي" عن عرشه بسبب تصاعد البطالة والتضخم، وتبني ريغان/تاتشر للنظرية النقدية، ونشوب أزمة الديون المالية في الجنوب والصعود القوي لثنائي البنك الدولي/وصندوق النقد الدولي من خلال فرض برامج التكيف وسقوط برلين، عاد الفكر النيوكلاسيكس لمركز الصدارة. وقد تجسدت هذه العودة بما سماه الاقتصاد الأمريكي Wiliamsonبـ "وفاق واشنطن" Washington Consensus، الذي ينطوي على الوصايا العشر – المستمدة أصلاً من مدرسة شيكاغو بويز "Chicago Boys"- والتي تشكل طرائق الخلاص لكل دولة من دول العالم الثالث ترغب في الإصلاح الاقتصادي، سواء في أمريكة اللاتينية أو غيرها. وتقضي هذه الوصايا بالانضباط الموازني، والإصلاح الضريبي، وتخفيض الإنفاق العام، وتحرير التجارة والأسواق المالية والاستثمارات الخارجية وإيجاد سعر صرف مناسب والخصخصة والابتعاد عن التضبيط. وإذا ما تخصصت كل من الدول النامية في المجالات حيث تتوفر لها المزايا المقارنة، واحترمت السعر الحقيقي، وتركت المبادرة الفردية تأخذ مداها في جو من المنافسة الحرة السليمة، وسمحت لقوى السوق أن تفعل فعلها دون تدخل من الدولة التي يجب أن تنسلخ عن الاقتصاد. ضمنت هذه الدول لنفسها تحقيق النمو والتوظيف الأفضل لعوامل الإنتاج. وإن عدم اتباعها لهذا المنهج، هو الذي جعلها تغوص في مزيد من التخلف. وإذا ما اجتذب وفاق واشنطن حتى عام 1998 الأكثرية الساحقة من الاقتصاديين الجامعيين وأولاء المنخرطين في الحياة العملية، فإن ما أسبغ عليه أهمية خاصة هو قرار البنك الدولي وتوأمة صندوق النقد الدولي بربط قروضهما ومعونتهما باتباع هذا المنهج.وقد أضاف البنك الدولي منذ عام 1990، لطريق الخلاص هذا "وفاق واشنطن"، مفهوماً جديداً يتجاوز الاقتصاد إلى السياسة، وهو مفهوم "الحكمانية Governance" الذي يرتكز إلى نشر نموذج (ديمقراطية السوق) القائم في الدول الغربية الآن على العالم بأسره. وقد عرّفه Leftwitchبأنه "النظام السياسي المرتكز إلى نموذج الدولة التي تستطيع تحقيق التنمية، هي تلك القائمة على نظام مؤسسي عقلاني، والتي يقتصر دورها على ممارسة وظائفها الأساسية وصياغة السياسات العامة التي لا يستطيع أي فاعل آخر أن يقوم بها بالذات الفعالية. ومن ثم فهي دول منفكة عن السوق بما يكفي، لتستطيع آليات تنظيمه الذاتية أن تحدث كل آثارها.وبغض النظر عما ينطوي عليه مفهوم الحكمانية من تمركز غربي حول الذات Ethnocentrism، وعن التصور لنموذج الدولة الأمثل الذي طرحه هذا المفهوم بصورة معيارية، لكنه لا يتوفر في أية دولة ديمقراطية في العالم، فإن تطبيق "وفاق واشنطن"، لم يؤتِ نتائجه التي تصورها السياسيون أو انتظرها المواطنون أو تنبأت بها النماذج الرياضية. وإذا ما أحدث بعضاً من النتائج الإيجابية على مستوى الاقتصاد الكلي، فإنه سرعان ما ارتطم بحدود لا يتخطاها إذا كنا نبحث عن نمو عادل متوازن ومستديم. فقد كذبته الأزمة الآسيوية عام 1997 من جهة و تراجع عنه، بل وانتقده بشدة بعض من أنصاره وفي السابق، وخاصة Stiglitzكبير اقتصاديي البنك الدولي و Krugmanحتى قال عنه بعض الاقتصاديين بأنه لفظ أنفاسه الأخيرة عام 1998 وإن القضية الأساسية تكمن الآن بماذا نستبدله من جهة أخرى.
1 – 2 – 4. الخيار الأفضل إن الوصول إلى هذا الخيار يستدعي عرض التالي:
- لقد أثبتت تجارب الدول في النصف الأخير من القرن العشرين إن سياسات التنمية التي استندت حصراً إلى تنظيم الحياة الاقتصادية من خلال الدولة فقط، أو بإلغاء العبء كاملاً على قوى السوق فحسب، قد باءت جميعها بفشل ذريع:
I. فقد أكدت تجربة روسية الاتحادية أن إلغاء احتكار السلطة السياسية من حزب واحد وإلغاء التخطيط المركزي في إدارة الاقتصاد لا يكفيان بحد ذاتهما كيما يزدهر اقتصاد السوق. كما أكدت بصورة قاطعة أن السوق لا يملك خاصية إرساء ذاته بنفسه. وفي غياب دولة شرعية قادرة على وضع قواعد اللعبة الجديدة من مؤسسات وإجراءات وتشريعات تسود الفوضى وقانون الغاب وتصبح المافيا في دفة القيادة.
II. والتشيلي تعطي مثلاً نموذجياً عن قصور منطق السوق، إذ اضطرت الدولة في منتصف الثمانينيات، بعد أن انتهجت منهجاً ليبرالياً كاملاً منذ 1973، للتدخل لتصحيح الاختلالات الناجمة عن هذا النهج، وقامت بتطوير الهيئات العامة المعنية بترويج الصادرات وقننت تدفق رؤوس الأموال القصيرة الأجل وحافظت على تصرفها بإيراداتها من تصدير النحاس. كما أثبتت الدراسات المقارنة المنهجية أن بعض النجاحات التي حققتها دول أمريكة اللاتينية لا ترجع إلى الاستراتيجيات الليبرالية التي اتبعتها، وإنما على العكس إلى مرحلة التصحيح اللاحقة التي أدخلت حداً أدنى من تدخل الدولة، وذلك باعتراف بنك أمريكة للتنمية.
III. ومن جهة أخرى فإن عدداً من مقومات السوق لا تتوفر أوتوماتيكياً بفعل السوق نفسه، وإنما من خلال تدخل الدولة. فالمنافسة لا تستمر إلا بفضل السلطة العامة، والتبادل السلعي لا يتم إذا لم تتوفر معايير الجودة والمواصفات الفنية التي توضع أو تعتمد م نقبل هيئات رسمية أو مهنية لا علاقة لها بقوى السوق. وإذا كانت كفاءة الاقتصاد ترتبط بحد أدنى من العدالة الاجتماعية، فتدخل الدولة هو الكفيل بإعادة توزيع الدخل عبر السياسة الضريبية.
IV. إن آليات السوق لوحدها لا تؤدي، من خلال اليد الخفية إلى التخصيص الأمثل للموارد. وإذا لم تتدخل الدولة فإن هدف تعظيم الربح يؤدي إلى نمو اقتصادي غير متكافئ إقليمياً وقطاعياً. وهذا ما فعلته الولايات المتحدة رائدة وقائدة اقتصاد السوق في العالم. إذ اتخذت الحكومة الفيدرالية من توزيع التمويل العام وعقود المشتريات الحكومية وسيلة لنشر الصناعة في البلاد، مما أدى إلى توطين صناعة الطائرات وما يتصل بها في الساحل الغربي بحيث غدت سياتل في ولاية واشنطن عاصمة هذه الصناعة بالغة الأهمية. وتركزت صناعة السلاح البحري والصناعات الإلكترونية في كاليفورنية. ولم يكن صدفة أن تستقر صناعة الفضاء في ولاية أريزونا شبه الصحراوية. وعلى المستوى القطاعي قامت الحكومة الفيدرالية، خشية هجرة رأس المال م الزراعة إلى الصناعة، بسبب تفاوت الربح بينهما لمصلحة الأخيرة، بدعم ضخم لقطاع الزراعة تجاوز في الثمانينيات 50 مليار دولار سنوياً. ولنذكر أخيراً أن التمويل الحكومي الأمريكي كان وراء أكبر الإنجازات التكنولوجية الحديثة. فلو لا تمويل تطوير الصواريخ لما أمكن وضع الأقمار الصناعية الخاصة بالاتصالات في مدارها، ولما كان بالإمكان تحقيق ثورة الاتصالات. كما أن شبكة إنترنت الشهيرة ليست إلا ثمرة إنفاق عسكري في البحث والتطوير، استهدف مواجهة حالة حرب تدمر واشنطن حيث القيادة المركزية، بتوفير شبكة اتصالات بين القوات المنتشرة في العالم دون المرور بمركز الشبكة، تجاوزت تكلفتها عشرة مليارات دولار واستغرق تطويرها قرابة عشرين عاماً.
V. فإذا كان منطق "السوق هي الكل" قد فشل، وأبرز شاهد عليه هو انطفاء شمعة "وفاق واشنطن"، خاصة بعد الأزمة المالية التي عصفت بدول شرق وجنوب شرق آسية، كما اتضح في الوقت ذاته إفلاس المنطق المعاكس "الدولة هي الكل" بعد الانهيار والترهل والتراجع الذي أصاب اقتصاديات الدول التي أخذت به، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنه لا يمكن إهمال آليات السوق، كما لا يمكن في الوقت نفسه، ضمان استمرارية وتوازن واستقرار اقتصاد السوق دون تدخل ذكي وديناميكي من الدولة، فإن الخيار الأفضل يكمن في تكامل الاثنين وليس بتبني أحدهما ورفض الآخر. وهذا هو السبب، الذي اتفق عليه الجميع تقريباً، في النجاح الذي حققته النمو الآسيوية. كما كان تراخي الدولة في أحكام الرقابة على الإقراض المصرفي الداخلي والاقتراض من الخارج وعلى تدفق رؤوس الأموال "الطيارة" للاستثمار المالي في المحافظ أو في سوق العملات، هو السبب في اندلاع أزمة عام 1997.
- وهنا يطرح السؤال الأساسي نفسه: كيف نترجم هذا الخيار في الواقع السوري؟
I. لا بد بداية من إيضاح نقطة أساسية مفادها أن التأكيد على دور الدولة إلى جانب قوى السوق لا ينفي البتة أن يقوم القطاع الخاص بدوره المطلوب كاملاً لتنفيذ الخطة التي تضعها الدولة بعد التشاور معه.
II. من الضرورة بمكان أن يعرف القطاع الخاص دوره من خلال رؤية واضحة طويلة الأمد، يركن لها المستثمر وتؤكد دون لبس، أن القطاع الخاص هو الفاعل الاقتصادي الذي يقع عليه العبء الأكبر والأساسي في تنفيذ خطة التنمية وتوفير وتنفيذ الاستثمارات اللازمة، مقابل أن يتركز دور القطاع العام في تأمين السلع العامة ومشاريع الخدمات الضرورية، وإقامة المشاريع الإنتاجية التي يحتاجها الاقتصاد الوطني، ولا تجتذب القطاع الخاص دون أن يؤدي ذلك إلى احتكار مفروض بقوة السلطة. ومن ثم يستطيع القطاع الخاص، أن يستثمر في مشروعات مماثلة قائمة يملكها القطاع العام التي يثبت جدواها، مما يزيل الحجاب الحاجز بين القطاعين أولاً، ويحسن من أداء القطاع العام بحكم المنافسة كما حدث في تجربة الهند الحديثة ثانياً، ويؤدي إلى رفع القيمة المضافة على المنتجات الأولية بدلاً من تصديرها بخسارة كمادة خام (كما هو الحال في القطن) ثالثاً.
III. وتأخذ هذه القضية بعداً خاصاً إذا ما عرفنا أن الاستثمارات المطلوبة لاستيعاب العمالة الجديدة الوافدة كل عام فقط (150.000 طالب عمل، على الأقل، ناهيك عن البطالة القائمة) تبلغ 187.5 مليار ل.س.، بمعدل 1.25مليون ل.س. لكل فرصة عمل، أي ما يعادل أكثر من 27% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 1998. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار تناقص استثمارات القطاع العام منذ عام 1985 – إذ تقل عام 1998 بمعدل 15% عما كانت عليه عام 1985 بينما زاد عدد السكان بنسبة 52%-، أدركنا أهمية دور القطاع الخاص في تمويل التنمية وتعبئة الادخار المحلي، الذي يجب أن يكون الأصل في تمويل الاستثمارات، فإذا نجحنا في تعبئته وحسن توظيفه أمكن لنا اجتذاب الاستثمارات الخارجية المباشرة.
IV. ولا بد لنا بهذا الصدد من التأكيد على نقطتين:
1. ضرورة تكاتف جهود واستثمارات القطاعين العام والخاص بالمساهمة في بعض مشاريع إنتاجية وخدمية مشتركة، بحيث يلعب القطاع العام، الذي يجب ألا تزيد مساهمته عن الثلث، ودور القاطر في الاستثمار ويترك للقطاع الخاص إدارتها تحت رقابته –وليس وصايته- كشريك مساهم، مما يعطي دفعاً جديداً للقطاع المشترك الذي يجب التوسع به، خاصة بعد أن قدم نموذجاً ناجحاً في قطاع السياحة السوري.
2. أهمية تدعيم الدولة والقطاع العام للقطاع الخاص من خلال المشاريع الكبرى التي تتعاقد عليها الدولة مع جهة أجنبية، كما فعلت جمهورية كورية حين تعاقدت مع فرنسة على مشروع النقل المتكامل بالسكك الحديدية (TGV). إذ وضعت كافة الشروط اللازمة في العقد لضمان اكتساب الجانب الكوري التكنولوجية الفنية والإدارية، وفرضت على الجانب الفرنسي أوسع حد ممكن من اللجوء إلى العقود الثانوية Subcontractingمع مختلف الشركات الكورية في تنفيذ التزاماته.
V. وإذا ما تردد البعض في قبول هذا الدور للقطاع العام بسبب قصور أدائه في السابق، فلا بد من التذكير بضرورة الحذر من التعميم واليأس. فهناك اختلاف نوعي في الأداء الحكومي بين بلد وآخر، وحتى داخل البلد الواحد. فشركة طيران تمكنت إحدى شركات الإسمنت من تجاوز طاقاتها الإنتاجية التصميمية. وذلك بفعل قياداتها ونزاهتها وقدرتها على تعبئة وتحفيز مدرائها ومهندسيها وفنييها. وهذا يؤكد المثل الشائع: "إذا وجدت الإدارة وجدت الوسيلة".
VI. وهنا لا بد من التعرف على خصائص الدولة التي تستطيع ممارسة هذا الدور الفعال، في إطار العلاقة التكاملية الجدلية بين العام والخاص، كيما تعطي أكلها:
§ إنها الدولة الواعية التي تملك رؤية متكاملة لتطوير بلدها ومجتمعها، وتنير لكافة الاقتصاديين والاجتماعيين المستقبل، وتقدم لهم الأدوات التي يستطيعون معها ترجمة مبادراتهم، في إطار استراتيجية الدولة، إلى حيز العمل.
§ هي القدرة على إنشاء هيئات تضبيطية تتسم بالكفاءة، ووضع قواعد للعبة تتسم بالشفافية والفعالية وعلى تطبيقها بموضوعية على جميع المتعاملين في السوق، دون تحيز أو تحالف موبوء مع البعض دون البعض الآخر سواء في ميدان الرقابة على صحة المنافسة، أو في عملية إعادة توزيع الدخل في جباية الضرائب.
§ هي التي يتوفر لها إدارة كفوءة ونزيهة لا يبحث موظفوها عن كسب ريعي (Rent Seeking) من خلال ابتزاز القطاع الخاص والمواطن إجمالاً، وتخفيف من القيود المرهقة التي يتصاعد الفساد طرداً مع زيادتها، ولا تعطل أجهزتها أو تشوه توجيهات صانعي السياسة بما يعود عليها بالنفع. وباختصار فإن على الدولة –وهنا أستعير تعبير Baghwatiعند مقارنته دور الدولة في بلاد شرق وجنوب شرق آسية ودورها في أمريكة اللاتينية وأفريقية- أن تسوس الاقتصاد الوطني نحو المستقبل Prescriberكما فعلت الأولى لا أن تكبحه وتشده إلى الخلف Proscriberكما فعلت الثانية؟
ثانياً: القطاع الخاص في ظل الحماية أكدت الحماية قبل الحرب العالمية الثانية، تستهدف حماية الصناعة في الدول المتقدمة من بعضها. فيما قامت الحماية في الدول النامية كرد من بعضها، وبالذات في أمريكة اللاتينية، على التطورات التي حدقت في الاقتصاد الدولي: الأزمة الاقتصادية في الثلاثينيات، تصاعد سياسة الحماية في الدول الصناعية مثل قانون Smoot-howlyلعام 1930 في الولايات المتحدة، ومن ثم انخفاض الطلب على المواد الأولية من الدول النامية وتناقص أسعارها- وهو ما يسمى بتدهور شروط التبادل-، إضافة إلى اضطرابات التبادل التجاري نفسه التي ترتبت على قيام الحرب العالمية الثانية. وكان الرد متمثلاً منذ بداية الأربعينيات بتنمية الصناعة لديها، موجهة إلى السوق الداخلية لتحل محل الاستيراد، وضماناً لتطورها كان لا بد من الحماية. ثم جاء Prebischليعطي الأساس النظري لهذه السياسات، مؤكداً أن السياسة الاقتصادية في دول أمريكة اللاتينية يجب أن تصاغ، بحيث تواجه العقبات الخارجية التي تحول دون نموها والمترتبة على علاقة التبعية وعدم التكافؤ بين دول المركز في الشمال المتقدم وبين دول التخوم النامية في الجنوب المتخلف. والتصنيع المحمي هو السبيل إلى ذلك، وهذا هو الأساس لنظرية الإحلال محل الواردات وما تستوجبه من حماية وهي السياسة التي انتهجتها سورية منذ ستينيات القرن العشرين.ولا بد بداية من التعرف على دور القطاع الخاص إجمالاً في الاقتصاد الكلي من خلال الإحصاءات الخاص بتكوين رأس المال الثابت والاستثمار والتجارة الخارجية ودوره في قطاع الصناعة التحويلية تحديداً.
2 – 1. في الاستثمار
- فقد حققت زيادة استثمارات القطاع الخاص، بالنسبة لسنة 1991، وبفضل قانون الاستثمار رقم /10/، طفرة كبيرة خلال الفترة 1992-1995. إذ وصلت هذه الزيادة ذروتها في عام 1994 بنسبة 62% وعام 1995 بنسبة 58.5%. ومنذئذٍ بدأت هذه النسبة بالانخفاض، لتصل عام 1996 إلى 12% وعام 1997 إلى 14%، وذلك بعد أن تناقص حجم الاستثمار بالنسبة لعام 1994 بمعدل 10% عام 1996 وبحوالي 30% عامي 1997 و1998.
- واتجهت نسبة مساهمة القطاع الخاص في إجمالي الاستثمار ذات الاتجاه. فبعد أن كانت هذه الاستثمارات تشكل حوالي ثلثي الإجمالي –أي ضعف استثمارات القطاع العام- عامي 1992 و1993. عادت هذه النسبة إلى الانحدار عام 1996 حيث بلغت 52%. واستمر هذا الانحدار ليصل إلى ما يزيد قليلاً عن 40% عامي 1997 و1998.
- ولا شك أن التناقص، في حجم استثمار القطاع الخاص، ونسبة مساهمته، يعكس حالة عدم اليقين التي اجتاحت المستثمرين من القطاع الخاص بسبب سوء تطبيق قانون الاستثمار رقم /10/، خاصة في تصاعد العقبات البيروقراطية التي تتمثل في التعدد غير المبرر للجهات الوصائية وتبعثرها المكاني والتماهل المجهد للمستثمر. واختلاف الإدارات في تفسير النصوص، مما يفرض عليه تكرار المراجعات، بما يعنيه من مضاعفة الوقت اللازم للإنجاز مرات ومرات وتفاقم قدرة الإدارات على ابتزاز المستثمر، وما ينطوي عليه ذلك كله، من تزايد التكلفة بنسبة عالية للحصول على الخدمات الضرورية لتشغيل منشآته من طرق وكهرباء ومياه وهاتف، وبالتالي من تبديد قاهر للجهد والمال.
2 – 2. مؤشرات التجارة الخارجية
- يعاني الميزان التجاري السوري عامة عجزاً كبيراً، وصل بالرغم من صادرات النفط إلى 35% عام 1991، وظل في حدود 25% في الأعوام 1993 و1996 و1998، ويظل عام 1997 استثناء إذ انخفض هذا العجز إلى 3% فقط بحكم انخفاض الواردات بمعدل 25% بالنسبة للسنة التي سبقتها. وإذا ما وضعنا الصادرات النفطية جانباً تفاقم هذا العجز ليبلغ بالمتوسط الثلثين، إذ بلغ أقصاه عام 1996 بنسبة 73% وأدناه في العام الذي يليه بنسبة 57%.
- وقد بدأت استيرادات القطاع الخاص بالتزايد منذ عام 1992 (حيث ازدادت بمعدل الضعف عن عام 1991)، وتصاعدت هذه الزيادة مقارنة بـ 1992، خاصة عامي 1994 و1996، إذ بلغت 56% و51% على التوالي، لتنخفض عام 1997 إلى 29%، أما نسبة مساهمة استيراد القطاع الخاص في إجمالي الاستيراد السوري فقد ظلت خلال الفترة 1992-1996 في حدود 63% لترتفع إلى 70% في العامين 1997 و1998.
- أما صادرات القطاع الخاص فقد بدأت بالتزايد بعد عام 1992 –التي نتخذها سنة الأساس-. إذ بلغت هذه النسبة ذروتها عام 1994 لتصل إلى 85% مقارنة بالسنة المذكورة و72% عام 1995. إلا أن نسبة هذه الزيادة بدأت بالانحدار منذ عام 1996 إذ انخفضت إلى 38% وإلى 25% عام 1997. بل انحدرت عام 1998 إلى مستوى سنة الأساس تقريباً. ومن جهة أخرى ازدادت حصة القطاع الخاص من إجمالي الصادرات السورية بدون النفط الخام من 53% عام 1992 إلى حوالي 62% بالمتوسط خلال الفترة 1993-1996 علماً بأنها ارتفعت إلى حوالي 70% عام 1994، لتنخفض عامي 1997 و1998 إلى حوالي 48%.
- على أن تغطية صادرات القطاع الخاص لوارداته اقتصرت على معدل بحدود 30% خلال الأعوام 1992 و1993 و1997 ارتفع إلى 36.5% بالمتوسط أثناء الفترة 1994-1996 لينخفض عام 1998 إلى 25%. أي أن العجز في الميزان التجاري للقطاع الخاص تراوح خلال الفترة 1992-1998 بين 62.5% (1996) و75% (1998).
2 – 3. في الصناعة التحويلية
- على الرغم من القفزة التي حققها الاستثمار الخاص في قطاع الصناعة عام 1996 إذ تضاعف رأس المال المستثمر حوالي مرتين ونصف عما كان عليه الحال في عام 1995، إلا أنه بدأ بالتراجع منذئذٍ فانخفض الاستثمار الصناعي عام 1997 بمعدل 9% وبمعدل 70% عام 1998 عما كان عليه الحال عام 1996.
ومن جهة أخرى لم تتجاوز المشاريع الصناعية التي نفذت فعلاً في ظل قانون الاستثمار رقم /10/ حتى نهاية عام 1998، 196 مشروعاً برأسمال يقارب 24.5 مليار ل.س. خلقت 8185 فرصة عمل. وهي أرقام لا تمثل بالنسبة للمشاريع المشملة أكثر من 21% من عدد المشاريع و6.5% من رأس المال و10.3% من عدد العمالة. - بلغت نسبة مساهمة القطاع الخاص في قيمة إنتاج قطاع الصناعة التحويلية حوالي النصف في عامي 1994 و1995، ارتفعت إلى 55% عام 1996 و57% عام 1997. وفي الوقت الذي تزايدت فيه القيمة المضافة التي ينتجها القطاع الخاص الصناعي بنسبة 45% عام 1996 و69% عام 1997 عما كانت عليه عام 1995 فإن نسبة مساهمة القطاع الخاص في إجمالي القيمة المضافة لقطاع الصناعة التحويلية قد ارتفعت من 52.5% عام 1995 إلى حوالي 62% وحوالي 73% عام 1997.
- يشكو الميزان التجاري لقطاع الصناعة التحويلية (أي نسبة تغطية صادراته إلى وارداته) من عجز يبلغ بالمتوسط خلال الفترة 1995-1998 حوالي 77.7%. إذ بينما انخفضت مستورداته خلال الفترة ذاتها بنسبة 20% فقد هبطت صادراته بمعدل 33%. وعلى الرغم من انخفاض استيرادات القطاع الخاص، بالمقارنة مع عام 1995، بنسبة 12% عام 1997 و7% عام 1998، فإن حصته من إجمالي استيراد قطاع الصناعة التحويلية قد ارتفعت من 63% عام 1994 إلى 74% عام 1998.
- أما صادرات القطاع الخاص الصناعي فقد أخذت مسار الانخفاض بعد عام 1995، إذ انخفضت عام 1996 بمعدل 32% عن العام المذكور ثم بمعدل 43% تقريباً في العامين 1997 و1998. كما تضاءلت حصته خلال الفترة ذاتها من إجمالي الصادرات الصناعية من 71$% إلى 60%. ومن جهة أخرى فقد انحدر أيضاً معدل تغطية صادراته لوارداته من 30% عام 1995 إلى حوالي 19% في الأعوام الثلاثة اللاحقة 1996-1998. أي أن عجز الميزان التجاري للقطاع الخاص الصناعي بلغ 81% خلال الفترة الأخيرة المذكورة.
2 – 4. وهنا يطرح السؤال نفسه عما أعطت الحماية من إيجابيات و ما ترتب عليها من سلبيات
- لا مراء بأن الحماية أنتجت بعضاً من الآثار الإيجابية، إذ كلفت حداً أدنى –على الأقل- من الأمان وتقليل احتمالات المخاطر للمستثمر الخاص، كي يأخذ المبادرة وما يلزم لتنفيذها، بعد أن ضمن عدم المنافسة الخارجية والداخلية أحياناً إذا ما كان حجم المشروع كبيراً. ومن ثم كان ذلك حافزاً للاستثمار، سواء في صناعات قائمة أو في صناعات جديدة خاصة بعد أن انحسر احتكار القطاع العام لكثير من الصناعات التي كانت وقفاً عليه، وبالذات في السنوات الخمس الأولى التي تلت عام 1991 التي صدر خلالها قانون الاستثمار رقم /10/ وذلك على الرغم من الضآلة الفعلية لحجم الاستثمار الصناعي، الذي كان دون التوقعات بكثير وهكذا قام العديد من المنشآت في الصناعات الغذائية والنسيجية والهندسية وخاصة الأدوات الكهربائية المنزلية. وترتب على ذلك أن حصة القطاع الخاص في قيمة الإنتاج لقطاع الصناعات التحويلية ارتفعت إلى 57% من الإجمالي، كما ازدادت مساهمته في الناتج المحلي الصافي لهذا القطاع لتقارب الـ 70%. كما ترتب عليه إيجاد نوع من المنافسة في الداخل وإن ظل أثرها محدوداً.
- حققت هذه الحماية أرباحاً كبيرة للمستفيدين منها. وكان هامشها في أغلب الأحيان مرتفعاً جداً، بحيث أصبحت دخلاً ريعياً. إذ لم تتأتى هذه الأرباح من التوظيف الأمثل لمختلف عوامل الإنتاج، وإنما لسبب خارجي لا علاقة له بكفاءة الإنتاج. ولدينا في سورية نماذج عدة من هذا الربح الريعي، أسوق أحدهما على سبيل المثال، فهناك منتج غذائي تعرض لمنافسة لبنانية، فقام صانعه بتخفيض الأسعار بنسب تتراوح بين 30 و40%، بل وأحياناً 50% ولئن أفاد المستثمر من الحماية مالياً، فقد كان ذلك على حساب المستهلك والمجتمع.
- غير أنه إذا كان صحيحاً أن توفر حد مناسب من حماية الصناعة الوطنية الناشئة أمر ضروري في البدايةـ لكن ذلك مشروط، بألا تصبح الحماية أسلوب حياة للصناعة، تتحصن في خندقها ضد التطور حتى تصاب بالركود، وإنما باعتبارها مجرد سياسة، ضمن حزمة مترابطة من السياسات الضرورية للنهوض بالقدرات التكنولوجية والاقتصادية والإدارية للصناعة الوطنية، تعينها على تثبيت أقدامها وتطوير قدراتها التنافسية. فالحماية لا تشكل علاجاً، وليست هدفاً بحد ذاتها، وإنما تمثل مناخاً مناسباً لجهود التطوير خلال فترة الحماية. وهذا يعني الأخذ بمجموعة من المبادئ الأساسية لتطبيقها: أولها بأجل زمني محدد لا يترتب عليها ريعي ومقتصرة على الحماية الجمركية، وثانيهما اتخاذ الصناعة، خلال فترة الحماية، كافة الإجراءات اللازمة للنهوض بكفاءة الإنتاج وبناء القدرة التنافسية. وثالثهما اتخاذ الدولة لإجراءات وقائية تحول دون ارتخاء الصناعة المحمية، مثل اشتراط تصدير نسبة معينة من إنتاجها في مرحلة مبكرة، وخاصة رقابتها ومتابعتها للتأكد من أن عملية التطور لديها مستمرة لا يعتريها الخمول والسكون. لكن شيئاً من ذلك لم يحدث لدينا فحصدنا نتاجها السلبي.
ويمكن إجمال هذه السلبيات بالتالي:
- سيطرت الصناعات الاستهلاكية على هيكل الصناعة السورية، والتي في أكثر الأحيان على الحلقات الأخيرة من السلسلة التكنولوجية (باستثناء صناعة النسيج القائمة على الغزول القطنية وبعض الصناعات الغذائية القائمة على تصنيع مدخلات زراعية محلية). بمعنى أن مستلزمات النتاج المستوردة تشكل القسم الأكبر من التكلفة، ومن ثم فالقيمة المضافة المتحققة داخل الاقتصاد السوري محدودة جداً. ولنا في صناعة المياه الغازية والأدوات الكهربائية المنزلية خير دليل على ذلك. فكل مستلزمات الإنتاج في الأولى (العلب، المركزات) مستوردة باستثناء الماء الذي يتم الحصول عليه مجاناً في الأغلب. وينطبق الأمر ذاته على الثانية حيث لا تزيد في آخر المطاف عن عملية تجميعية للمكونات المستوردة. وعلى هذا ظل التشابك الصناعي الداخلي هزيلاً جداً، إذ لم تستطع هذه الصناعات خلق طلب كاف على المنتجات أو المكونات الوسيطة كي يتم تصنيعها محلياً، خاصة وأن الحماية تنصب على المنتج النهائي دون مستلزمات الإنتاج الوسطية. وبالتالي فليس غريباً أن يتزايد استيراد القطاع الخاص من الخارج بمعدلات مرتفعة كما سلف ذكره، مع ما يعنيه ذلك من عبء على الاقتصاد الوطني، مع أن الهدف المعلن كان تخفيف العبء عليه من خلال تقليص الاستيراد: ومن ثم فقد خابت التوقعات المرتقبة وراء هذه السياسة من انتشار للتكنولوجية وقطر لإقامة الصناعات الوسطية التي تمد الصناعات الاستهلاكية ببعض من مستلزمات الإنتاج.
- ومن جهة أخرى، أدت الحماية إلى حالة من التراخي لدى رجل الأعمال الصناعي في إدارته للمشروع في تطويره والاتقاء بإنتاجه:
- فالبحث والتطوير أمر نسمع به، إن سمعنا دون أي أثر في الواقع الذي نعيشه، في الوقت الذي يشكل فيه هذا النشاط عنصراً أساسياً في الصناعة وتقدمها كما فعلت النمو الآسيوية. ويصدق هذا حتى في الصناعات التي تتوفر فيها المنافسة الداخلية مثل صناعة الأدوات الكهربائية المنزلية. فلم نعرف أحداً من المعنيين بهذه الصناعة بذل جهداً يذكر في التطوير لحل أو للتخفيف، من مشكلة التقلبات الكبيرة في التيار الكهربائي، أو الاقتصاد في استهلاك الطاقة أو حتى في توزيع الرفوف داخل البراد مثلاً من أجل استخدام أكفأ للمكان.
- إهمال وضع نظام محدد من لصيانة اليومية أو الدورية المنتظمة باعتبارها عنصراً أساسياً في التشغيل، لما يترتب على غياب مثل هذا النظام من تضاؤل مردود الآلة وارتفاع الطاقة الإنتاجية المعطلة وتعرضها الدائم للتوقف عن العمل لفترات تطول أو تقصر، مع كل ما يعنيه ذلك من هدر للوقت والمال وضعف في الإنتاجية، وهذا داء يحيق بالجميع.
- افتقاد أنظمة محاسبة التكاليف بحيث يعجز رب العمل عن معرفة التكلفة الحقيقية للوحدة المنتجة، وفي أي من مراكز التكلفة يكمن الهدر وارتفاع التكلفة أو توجد نقطة الاختناق، وما هو وضع المنشأة المالي من حيث توفر السيولة والديون المترتبة له أو عليه ومواعيد استحقاقها أو دفعها. وينطبق الأمر نفسه على نظام إدارة المستودعات، بحيث لا يجمد مال دون طائل ولا يهمل توفير مادة أو سلعة في الوقت اللازم، كما ينطبق على إدارة الأفراد ونظام الحوافز لربط العامل بمنشأته وتعزيز ولائه لها.
- إهمال تدريب الفنيين العاملين ليس في مرحلتي التصميم والتنفيذ والتركيب فحسب، بل وفي مرحلة التشغيل أيضاً. مما ينعكس على نمو وتعظيم المرتبتين على تطوير مهارة العامل وكفاءته، وليس بالضرورة على توظيف جديد لرأس المال متمثلاً بآلات أحدث وأكفأ، أي الارتفاع ضمن الشروط القائمة لأعلى حد ممكن.
- ويترتب على ذلك كله هبوط بمستوى الجودة خاصة في غياب الرقابة الصارمة عليها داخل المنشأة، يرافق ذلك زيادة في التكلفة التي –وإن لم يعرها الاهتمام المناسب بسبب الحماية-، إلا أنها تضر بمصلحة رب العمل بداية وتنعكس سلباً على الاقتصاد الوطني لما تعنيه من هدر للموارد، وجورٍ على المستهلك الذي يواجه خيارات محدودة لإشباع حاجاته ، وعسفٍ على الصناعي الذي يستخدم السلعة المعنية كواحدة من مستلزمات إنتاجه.
- وكان طبيعياً، والحالة هذه أن يفتقد رب العمل الحافز للتصدير، وأن توفر له الحافز فهو عامة عاجز عن المنافسة في الخارج بحكم قصور جودة إنتاجه وارتفاع تكلفته. وهذا الوضع الصعب هو الذي يفسر، لماذا لم يستطع السوريون الاستفادة من اتفاق التعاون الموقع بين سورية والمفوضية الأوربية عام 1977، والذي يقتضي بتصدير السلع الصناعية ذات المنشأ السوري إلى دول الاتحاد الأوربي معفاة من الجمارك، دون المعاملة بالمثل، حتى بعد تفكك الكتلة الاشتراكية في بداية العقد المنصرم، وانتهاء العمل باتفاقات المدفوعات . كما يفسر أيضاً تناقص صادرات القطاع الخاص الصناعي بين عامي 1995 و1998 بمعدل 43.5% كما رأينا.
وجدير بالذكر أنه نتج عن الحماية أثر سلبي، على درجة من الخطورة لا تقل عما سبق ذكره إن لم يزد ، يتمثل بالمفارقة التالية: لئن أفادت الحماية شريحة من القطاع الخاص، من خلال تعظيم هامش أرباحه، إلا أنها أدت في النهاية إلى كبح القطاع الخاص ككل. فقد حالت، من خلال الاستثمار السهل (انخفاض حجمه وضمان السوق) دون تطور الريادة Enterepreneuruspibالحقيقية وما يعنيه ذلك من ندرة المنظمين (أو الرواد) الذين يستطيعون اتخاذ المبادرة، بعد دراستها، وتحمل بعض المخاطر وهي الفئة التي تعطي للقطاع الخاص سمته الديناميكية، خاصة وإن اكتساب صفة المنظم لا تأتي دفعة واحدة وإنما تحتاج إلى وفت يمكن معه، من خلال الممارسة في جو من المنافسة، أن يظهر على سطح المجتمع عدد من المنظمين في كافة النشاطات الاقتصادية. على أن حالة التراخي سالفة الذكر لم تقتصر على الصناعيين فحسب وإنما شملت التجار وبيوت الخبرة. فالأول لم يفعلوا شيئاً من الناحية المؤسسية، كتكوين شركات تجارية متخصصة بالتصدير، كما هو الحال في الدول الآسيوية المعروفة، حيث تتعرف على أسواق التصدير ومتطلباتها، وتقوم بإرشاد المنتج، ومطالبته باحترام كامل المواصفات اللازمة وبالتسويق في الخارج. أما بيوت الخبرة والشركات الاستثمارية الوطنية فلا تزال شبه معدومة على الرغم من أهميتها وضرورتها كمركز لتراكم الخبرة واكتساب التكنولوجية.
غير أنه توخياً للموضوعية في تحليل وضع القطاع الخاص في ظل الحماية واستكمالاً له نود إبراز النقطتين التاليتين:
- فالحكومة لم تتخذ من التدابير ما يدفع بالقطاع الخاص لتجاوز نقاط الضعف سالفة الذكر، بل على العكس ساهمت من حيث تدري أو لا تدري، بتعقيد الموضوع وليس بحله.
- فلم يكن لدى الحكومة استراتيجية واضحة معروفة للتنمية الاقتصادية والصناعية، واقتصرت على أسلوب إدارة الأزمة لتجد حلاً منفرداً لكل أزمة قد يختلف في جوهره وسياسته عن الحل الذي تقرره لأزمة أخرى. كما كانت هناك بعض التوجهات المعلنة والتي سرعان ما يساء تطبيقها. وفي ظل هذا الواقع لا يستطيع رجل الأعمال أن يتبين طريقه للمستقبل بسبب حالة عدم اليقين السائدة وانعدام القدرة على التنبؤ.
- زيادة تكلفة الإنتاج سواء بسبب ارتفاع أسعار المواد الأولية والوسطية التي ينتجها أو يوزعها القطاع العام (حيث يباع القطن المحلوج للصناعي المحلي يزيد 90% عن السعر المباع للخارج والغزول القطنية تباع بزيادة 30% على الأقل إلى الصناعي السوري من سعر الغزول نفسها المباعة للخارج علماً بأن كليهما يدفع بالدولار) أو بسبب ارتفاع التعرفة الجمركية لعدد من المواد الأولية و الوسطية، بحيث تزيد عن تعرفة المنتج النهائي التي تدخل في تركيبه.
- إن غياب التمويل الصناعي الذي لم يتجاوز نصيبه من إجمالي التسليف في سورية 2.5% وكذلك غياب تمويل الصادرات من خلال مصرف مختص أو أي مصرف آخر، وتخلف النظام المصرفي السوري تشكل جميعاً عنصراً هاماً في كبح إمكانيات الفعلية القائمة لتنمية الصادرات السورية.
- إبقاء الصناعي في حالة من القلق وعدم الاستقرار بسبب استمراره سجين ما يسمى بالترخيص المؤقت بدلاً من منحه ترخيصاً دائماً يزيح عن كاهله مرارة التخوف الدائم من إرغامه في المستقبل على الانتقال إلى موقع آخر.
- وبالمقابل قام في السنين الأخيرة عدد من الصناعات التي لا تتوفر لها أية حماية. وعلى الرغم مما اعترض طريق بعضها من عقبات وما واجهته من مشاكل، فإنها استطاعت أن تصمد أمام المنافسة الخارجية التي لم تكن متكافئة في أكثر الأحيان، لأسباب عدة، بما فيها ضآلة الرسوم الجمركية التي يدفعها المستوردون للمنتجات المماثلة بسبب نجاحهم في التلاعب بقيمة الفواتير المبرزة، أو إدخالها تحت مظلة "نخب ثاني" أو "بضاعة ستوك". وبهذا الصدد يجب أن نذكر أن الصناعيين السوريين، وهم المعنيون الأول بجو المنافسة، وبالذات غرفتي صناعة دمشق وحلب، قد عبرتا رسمياً أكثر من مرة عن ترحيبهم بالمنافسة، شريطة توفير حد أدنى من التكافؤ في شروط العمل مع منافسيهم في الخارج، كما سنرى فيما بعد؟
ثالثاً: القطاع الخاص في ظل المنافسة:
ليست المنافسة، في واقع الأمر، إلا البنت الشرعية للانفتاح التجاري. ولم يعد هذا الانفتاح مطروحاً مع بدائل أخرى لنحدد اختيارنا. وإنما أصبح واقعاً على الصعيدين الخارجي والداخلي، فقد ساد على الصعيد الأول بحكم العولمة واتفاقية "الجات 2" اللذين يتجاوزون بكثير مجرد حرية التجارة، وبدأ اعتماده منهجاً على الصعيد الداخلي من خلال منطقة التجارة الحرة العربية، أو الاتفاقات الثنائية مع عدد من الدول العربية الشقيقة (لبنان، الأردن، السعودية…الخ)، أو عبر اتفاقية الشراكة الأوربية المرتقبة، أو من خلال الانتساب المحتمل لعضوية منظمة التجارة العالمية، ولا شك أن هذا الوضع الجديد يطرح بالضرورة عدداً من التحديات المباشرة وغير المباشرة أمام القطاع الخاص تستدعي بدورها إيجاد الحلول المناسبة:
3 – 1. يمكن إجمال هذه التحديات بالتالي:
- سيترتب على هذا الانفتاح هزة عنيفة تصيب النسيج الصناعي السوري. إذ سيؤدي إلى اختناق عدد كبير من الصناعات التي استرخت على مقعد الحماية. وإذا كانت الدراسات التي أعدت في تونس بصدد آثار اتفاقية الشراكة التونسية الأوربية، قد توقعن انهيار ثلث نسيجها وتهديد الثلث الثاني ما لم يؤهل على الوجه المطلوب، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن تونس بدأت بسياسات التكيف الهيكلي والانفتاح التدريجي منذ عام 1987، وإن صادراتها الصناعية فاقت الـ 5مليار دولار عام 1998 أدركنا أن وضعنا في سورية لن يكون أسوأ بكثير.فالصناعات المهددة بالزوال هي تلك التي تعتمد كلياً على المكونات المستوردة من الخارج كصناعة الأدوات الكهربائية المنزلية أو على مستلزمات الإنتاج التي لا تتوفر محلياً كصناعة المناديل الورقية والمشروبات الغازية.
- سيؤدي الانفتاح التجاري في البداية كذلك،إلى مزيد من تدهور ميزان سورية التجاري. إذ سيدفع المستهلك على شراء السلع المستوردة بدلاً من السلع المحلية. كما أن عملية تحسين وتطوير الإنتاج الصناعي التي سيقوم بها القطاع الخاص لمواجهة المناخ التنافسي الجديد، والتي ستتطلب استيراد آلات ومعدات جديدة، ستؤدي بدورها إلى تصعيد أكبر في تدهور الميزان التجاري للقطاع الخاص، أضف إلى ذلك أن القيام بتطوير البنية التحتية والخدمات. لتحسين المناخ الاستثماري واجتذاب تدفقات أكبر من الاستثمار الأجنبي المباشر، مع ما يتطلبه ذلك من استيرادات سيقوم بها القطاع العام والخاص، ستخلق هي أيضاً مزيداً من مصاعب الميزان التجاري وارتفاع عجز الحساب الجاري الخارجي.
- ومن جهة أخرى فإن الدور المتعاظم الذي سيلعبه القطاع الخاص في تنفيذ خطة التنمية، والذي سيقع عليه بالتالي العبء الأكبر في الاستثمار، سيقتضي منه جهوداً جبارة لتوفير الحد الأدنى من حجم الاستثمار اللازم. وإذا ما تذكرنا أن الاستثمارات المطلوبة لإيجاد فرص عمل للوافدين الجدد إلى سوق العمالة كل عام تبلغ، كما أسلفنا، 187.5 مليار ل.س. بالإضافة إلى ما يستلزمه تطوير نشاطاته الحالية من استثمارات للتواؤم مع الجو التنافسي الجديد، أدركنا جسامة المشكلة التي يواجهها.
- وأخيراً فإن تأجيج المنافسة عبر الانفتاح، يستلزم كيما تعطي المنافسة ثمارها الإيجابية، إيجاد مقومات نجاحها وتتمثل هذه بتوفير التكافؤ بين المتنافسين في ظروف وشروط العمل الاقتصادي الذي يعيشه كل هؤلاء في بلده. وإلا كان النجاح في النهاية حليف من يعمل في مناخ إنتاجي واستثماري أفضل. وكان افشل من نصيب الذي لا يتوفر له ذلك. وعلى هذا فلا بد من مواجهة تحدي عدم التكافؤ في شروط العمل بين الفاعلين الاقتصاديين السوريين وزملاؤهم العرب الآن، والأوربيين لاحقاً، من حيث معدلات الرسوم الجمركية والفروض الضريبية وسهولة التمويل والعمليات المصرفية وحجم البيروقراطية..الخ.
3 – 2. هذه التحديات تستدعي عدداً من الحلول نجملها بالتالي:
- لا شك أن أول الحلول يكمن في الآثار الإيجابية التي ستترتب على إرساء جو المنافسة ذاته، واحتدامها في مواجهة السلع الأجنبية بعد تحصين الإنتاج السوري، ولفترة طويلة، في خندق الحماية ومنطقها، أو خلف سياج الاحتكار وريعه. وستحدث هذه الآثار في المدى القصير والمتوسط/البعيد. فعلى المدى القصير تمثل المنافسة حافزاً جوهرياً للمنتج المحلي، كي يعبئ، عندما يستشعر الخطر، إمكاناته وكافة موارده المتاحة لتحسين الإنتاج جودة وسعراً من خلال تعظيم الإنتاجية، وخفض الفاقد وترشيد الإنفاق، وتنمية المهارات الفنية والتسويقية، ووضع أنظمة فعالة للصيانة وإدارة المستودعات ومحاسبة التكاليف وتدفق المعلومات داخل المنشأة أو المؤسسة وتحفيز العاملين عبر إشراكهم في تطوير المنشأة، وتشجيعهم على تقديم اقتراحاتهم بالتحسين مما يعظم حرصهم على مصير منشأتهم. كما قد تؤدي إلى دفع المنشآت، وغالبيتها العظمى عائلية، لتجاوز التفتت، بالتعاون فيما بينها عبر صيغ شتى، بما فيها الاندماج، مما يساهم أيضاً في تطوير الهيكل الإنتاجي وزيادة عائدة وخلق قدرة الإنتاج من عمالة ورأس مال، وتوجيهها نحو القطاعات التي تمتع فيها سورية بمزايا نسبية، والتي يتحقق معها أكبر قدر من القيمة المضافة محلياً.
- إعادة تأهيل المنشآت الصناعية المعرضة –للتهديد- وخاصة في نطاق الفئة التي تستخدم أكثر من 10عمال، بحيث تعاد هيكلتها لتصبح قادرة على الصمود والمنافسة، وهذا يقتضي أن نحتذي بالبرتغال، عندما انتسب للمجموعة الأوربية بإنشاء صندوق خاص تديره وزارة الصناعة، ويشتمل على شقين أولهما لتمويل الاستشارات، وثانيهما لتمويل تنفيذ عملية إعادة التأهيل والهيكلة. وهذا ما تفعله الآن بمعونة الاتحاد الأوربي تونس والمغرب ومصر، حيث رصد له مبلغ 420 مليون دولار. أما المنشآت المهددة بالزوال فلا بد من أن تتحد في إطار تجمعات صناعية، ترشد من خلالها نشاطها الإنتاجي، بتقسيم العمل فيما بينها، وتأمين مستلزمات الإنتاج وتطوير مهارات أفرادها بصورة جماعية. وفيما يتعلق بالمنشآت التي تستخدم أقل من 10 عمال فيتوجب اتخاذ عدد من الإجراءات الداعمة منها: (أ) إيجاد الأطر المناسبة وتوفير الحوافز الملائمة لضمها في اتحادات وجمعيات تعاونية، من شأنها تعظيم كفاءاتها الإنتاجية والاقتصادية. (ب) توفير البنية المادية المناسبة لتسهيل انتظام هذه المنشآت في اتحادات وجمعيات والمتمثلة بالمناطق الصناعية الخاصة بها، وتأجيرها أو تمليكها ما تحتاجه من أمكنة لممارسة نشاطها الإنتاجي، كما فعل العديد من الدول الأخرى. وتلعب الدولة دوراً رئيسياً في هذا الإطار.
- تعظيم التصدير من خلال تنفيذ استراتيجية متكاملة، تشكل عنصراً أساسياً في استراتيجية التنمية الاقتصادية الشاملة، تصوغها الدولة مع القطاع الخاص، وتستهدف زيادة الصادرات السورية بصورة مضطردة، باعتبارها قارب النجاة الوحيد أمام شبح نضوب النفط وتصاعد عجز الميزان التجاري السوري عامة وذاك المتعلق بالقطاع الخاص. ويجب أن تنطوي هذه الاستراتيجية على:
- تشخيص دقيق للسياسات واجبة الاتباع حاضراً ومستقبلاً وللأسواق المستهدفة بالإضافة إلى سبل تخفيض تكاليف الإنتاج المباشرة، من حيث المدخلات، وغير المباشرة من حيث الضرائب والرسوم، وتوفير التمويل المناسب والسماح للقطاع الخاص بالاستثمار في أي مجال تثبت فيه جدواه الاقتصادي والاجتماعية، بما في ذلك تصنيع الغزول القطنية واستغلال الثروة الرخامية.
- اتخاذ الدولة للإجراءات المرتبطة بتنفيذ هذه السياسات:
- تخفيض تكلفة المدخلات بإلغاء عمولة مؤسسات التجارة الخارجية على استيراد مستلزمات الإنتاج للتصدير، وتخفيض الرسوم الجمركية إلى الحد الأدنى على هذه المستلزمات بالذات، وتوفير المواد الأولية الوسيطة التي ينتجها القطاع العام بالأسعار العالمية.
- منح مزايا ضريبية، من تخفيض ضريبة الدخل على الصادرات والسماح للمصدرين بالاحتفاظ بعوائد التصدير لتغطية مستورداتهم الخاصة بإنتاجهم، وشراء مكتب للمتبقي من عوائد التصدير بالسعر الفعلي بما يعنيه ذلك من قطع دابر التصدير الوهمي.
- إعطاء حوافز خاصة للشركات التجارية المتخصصة بالتصدير، وللشركات المصنعة للمنتجات ذات التكنولوجية العالية مثل المكونات.
- توفير التمويل اللازم لتنفيذ عقود الصادرات بأسعار تشجيعية، مع الأخذ بمعيار حجم التصدير كأساس لتحديد سقف القروض والتسهيلات الائتمانية.
- تسهيل عمليات الإدخال المؤقت وتطبيق نظام المستودع الصناعي.
- توفير قاعدة معلومات مناسبة تشتمل على المعنيين بالتصدير منتجاً كان أم تاجراً، الأسواق المستهدفة ومواصفات السلع المطلوبة والمستوردين المحتملين في هذه الأسواق.
- تنشيط المشاركة السورية في المعارض الخارجية إذ لا يتجاوز عدد المعارض التي تشارك فيها الآن ثلاثة معارض بعد أن كانت تشارك في سبعة عشر معرضاً في منتصف الثمانينيات.
- إحكام الرقابة الصارمة على الصادرات لاحترام المواصفات المتفق عليها مصحوبة بالمؤيدات الزاجرة.
- وضع خطط ديناميكية للتصدير تشتمل على تحديد أهداف كمية معينة في زيادة الصادرات، بالاتفاق مع الجهات المنتجة أو المصدرة، مقرونة بمنح جوائز تقديرية منوية لأبرز المصدرين.
3 – 2 – 1. تعبئة الاستثمار
إن أهمية هذا الموضوع الحيوي تتطلب إيضاح النقاط التالية:
- يرتدي هذا الموضوع أهمية خاصة، إذا ما عرفنا أن اتفاقية الشراكة السورية الأوربية لا تنطوي على أي نص يقتضي بتعويض عجز ميزاننا التجاري، الذي سيتصاعد مع الاتحاد الأوربي بعد تطبيق الاتفاقية، بتدفق مناظر للاستثمار نحو سورية، كما تفعل الولايات المتحدة مع المكسيك، باعتبار التوازن بين تدفق السلع وتدفق الاستثمارات يشكل هدفاً نصت عليه اتفاقية "النافتا" NAFTA. وهذا ا فعلته اليابان أيضاً مع جاراتها في شرق آسية.
- إن تعبئة الاستثمارات الوطنية من الادخار المحلي هي الأساس ويجب أن تكون الأصل. والنجاح في -اجتذابها واجتذاب استثمارات المغتربين السوريين– هو الشرط المسبق لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية، على أن نتنبه إلى ضرورة قصرها على الاستثمارات المباشرة FDIوتوجيهها نحو القطاعات ذات الأولوية والتي من شأنها تدعيم القدرة التكنولوجية الوطنية، وأن لا نسمح بتوظيفها في الاستثمار المالي (في الحفاظ أو للمضاربة الوطنية). ولنا في الأزمة التي عصفت بدول شرق وجنوب شرق آسية عام 1997، وتلك التي أحاقت ببورصة القاهرة قبل عامين، شاهد قاطع على خطورة الاستثمار المالي على الاقتصاد الوطني.
- صحيح أن القطاع الخاص يتحمل مسؤولية هامة في تعبئة الاستثمار وضخمة جداً في توظيفه، ولكن صحيح أيضاً أن التجربة التاريخية في شرق آسية أفادت بأن الدولة كانت المحرك الأول والعنصر الأساسي في تمويل السياسة الصناعية، خاصة بما يسمى (Fiscal Investment and Loans) FIL. وقد تم ذلك، ليس من موارد الميزانية العادية، ولكن باستخدام موارد من خارج الميزانية (مثل القروض الخارجية بضمان الدولة والودائع الخاصة لدى بنوك القطاع العام وصناديق التوفير وصناديق التقاعد). وجدير بالذكر أن هذه القروض لا تظهر في الإحصاءات التي ينشرها صندوق النقد الدولي ( IMF) كجزء من الإنفاق العام. غير أنها بلغت حجماً يماثل الإنفاق العام المدرج في الميزانية تقريباً. ووفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي فقد بلغت نسبة إنفاق السلطات العامة في اليابان (الميزانية العادية) 15-20%. من الناتج المحلي الإجمالي خلال السبعينيات والثمانينيات. إلا أن هذه النسبة تصل، إذا ما أضفنا تلك القروض إلى 35-45%. ويصدق الأمر نفسه على كورية إذ يتضاعف حجم الإنفاق العام إذا ما أضيفت له القروض. وترفع، وبصورة ملحوظة جداً، نسبة عجز الموازنة إلى الناتج المحلي الإجمالي (من 1-11%).
- أولويات الاستثمار: لا بد من تحديد واضح لهذه الأولويات تجنباً لنمو عشوائي غير متوازن.
- فعلى مستوى الصناعة يمكن أن تسير على التوازي في:
- خط الصناعة التقليدية والتكنولوجية الوسيطة، أي صناعة النسيج والألبسة،إذ يجب تصنيع القطن السوري بكامله وتصديره نسيجاً وألبسة، والصناعات الغذائية الخاصة بتصنيع المنتجات الزراعية المحلية بدءاً من القمح مروراً بالزيتون وانتهاءً بالخضار والفواكه.
- خط التكنولوجية العالية مثل صناعة المكونات أو قطع الغيار الميكانيكية والكهربائية، التي تنتج عادة من خلال العقود الفرعية Subcontracting، وهي تنطوي على تشكيلة واسعة جداً وتحقق حداً عالياً من القيمة المضافة، كما يتعاظم التوجه لدى الدول المتقدمة لتعميم هذا النوع من العقود مع الدول النامية، التي تتوفر لديها شروط التصنيع المناسب لهذه السلع جودة وتكلفة.
- خط التكنولوجية الرفيعة والمتطورة القائمة على ثورة المعلوماتية التي تجسد المستقبل: صناعة المكونات الإلكترونية وصناعة البرمجة وتطبيقاتها، والتي يمكن أن تصبح سورية معها مركزاً لتصدير خدماتها إذا ما تابعنا وطورنا مسيرة الرعاية التي تحظى بها المعلوماتية من جهة أخرى.
- وعلى مستوى التجارة يمكن التركيز على هدفين: أولهما إقامة شركات متخصصة بتصدير الإنتاج الزراعي والصناعي والحرفي السوري، بحيث تشكل صلة الوصل بين المنتج المحلي والمستورد الخارجي، كما هو الحال في الدول الآسيوية، وهذا عمل يتطلب مهارات خاصة ونفقات هامة لتعميق المعرفة بالأسواق الخارجية وتكوين شبكة العملاء فيها، وهو أمر تعجز منشآتنا الإنتاجية عن القيام منفردة به. وثانيهما هو تشكيل الشركات القابضة (Holding co.) مهمتها تنشيط الاستثمار من خلال اكتشاف فرصه، والترويج لها لدى المستثمرين والمواطنين. وتساهم هي بنسبة لا تتجاوز 5-10% في كل مشروع. بحيث تضفي على المشروع المصداقية التي تجتذب المستثمر.
- وعلى مستوى السياحة فمن الضروري توظيف ثراء سورية الاستثنائي بالمواقع السياحية بصورة أكثر فعالية من خلال إيجاد البيئة التحتية المادية، وخاصة فنادق الثلاث نجوم والبنية الفوقية بتأهيل الأفراد العاملين في السياحة وتطوير النمط السياحي ليشمل السياحة الجماعية لكافة الشرائح متوسطة الدخل وتوفير التمويل اللازم للتسليف السياحي، ومنح التسهيلات للمجموعات السياحية إلى سياحة التسوق والسياحة العائلية والفردية. لأن السائح من هاتين المجموعتين ينفق في البلد أضعاف ما ينفقه سائح المجموعات السياحية.
- أما على مستوى الخدمات فإن سورية تفتقد حلقة هامة من سلسلتها، وهي بيوت الخبرة الاستثمارية المتكاملة التي تدرس اقتصادية المشروع وتضع تصميماته وتشرف على تنفيذه، سواء في مشاريع البنية التحتية من طرق وجسور وسدود وأبنية، أو في المشاريع الصناعية حيث تقوم هذه المكاتب بدراسة الجدوى الأولية ثم التفصيلية بما فيها اختيار المنتج المناسب وتحديد البدائل التكنولوجية وتصميم الخط الإنتاجي ووضع خطة لتأهيل وتدريب المدراء والمهندسين والفنيين منذ بداية التنفيذ. صحيح أن عامل الطلب على هذه الخدمات كان مفقوداً، إذ لم تعره الدولة أي اهتمام يذكر في كل الاستثمارات التي نفذتها خلال العقود الفائتة، مفضلة التعاقد بطريقة المفتاح باليد ( Turn Key Job). كما أن القطاع الخاص لم يلجأ لمثل هذه الخدمات، مع أنه ينفق مئات الملايين على شراء المعدات والآلات والأعمال الإنشائية، ويبخل بالجزء اليسير منها للإنفاق على مثل هذا العمل الذي يحكم مستقبل المشروع. وهذا يفسر إلى حد كبير كثيراً من الظواهر السلبية. كانخفاض معدلات التشغيل وارتفاع التكلفة، ناهيك عن المفاجآت الكثيرة التي يواجهها المستثمر بعد البدء بالتشغيل. ولكن صحيح أيضاً أن جانب العرض كان ولا يزال –بصورة عامة- غائباً. علماً بأن البيوت الاستشارية تلعب دوراً حيوياً في الدول المتقدمة أو لدى النمور الآسيوية، وتمثل مراكز هامة لتراكم الخبرة. ويجب بهذا الصدد، التذكير بضرورة ربط أي ترخيص لأي مشروع يتجاوز حجم الاستثمار فيه حداً معيناً، بتقديم دراسة جدوى بالمعنى المهني للكلمة، وليس بمجرد ملء استمارة كتلك التي تقدم إلى مكتب الاستثمار للتشميل بالقانون رقم /10/. ففي ذلك مصلحة للمستثمر قبل اية جهة أخرى.
- فعلى مستوى الصناعة يمكن أن تسير على التوازي في:
3 – 2 – 2. تكوين وتدريب الموارد البشرية
لئن كان لإجماع منعقداً على أن الدولة هي الجهة التي تعني بقطاع التربية والتكوين المهني من خلال الجامعات والمعاهد الفنية ومراكز التدريب، فإن المستثمر أو رب العمل هو المسؤول عن تكوين وتدريب الأفراد الذين يعملون في منشأته لتشغيلها على الوجه الأمثل. أي في حالة الصناعة مثلاً، يجب أن يبدأ التدريب منذ الاتفاق مع الجهة الموردة للآلات والخط الإنتاجي، وذلك بإيفاد العدد اللازم من المهندسين والفنيين، وحتى الإداريين في بعض الحالات، إلى مكاتب الشركة الأجنبية المذكورة، ليعملوا يداً بيد، ومن البداية مع المختصين لديها أثناء فترة تصميم المبنى والخط الإنتاجي وتصنيع الآلات وتركيبها وتشغيلها. وهذا ما تفعله الدول الآسيوية كالصين وكورية. لأن السبيل الأوحد لاكتساب واستيعاب التكنولوجية يتم عبر هذا النوع من الممارسة. على أن عملية التدريب يجب أن تكون سياسة مستمرة وشاملة للعاملين في المنشأة طيلة حياة المشروع. م أجل تحديث معارفهم وتدعيم قدراتهم، مما يشكل الضمان الأفضل للتعظيم العائد والإنتاجية ومن ثم تدعيم القدرة على المنافسة. وهذا منهج واجب التطبيق في أي مشروع إنتاجياً كان أم خدمياً.
3 – 2 – 3. الإدارة الكفوءة والجودة
إن العائد الاستثماري الجيد لا يتأتى في ظل المنافسة، إلا إذا أحسن استخدام الموارد، بما ي ذلك البشرية منها، أي وهذا ما يسمى بالإدارة القديرة التي تستهدف بلوغ أعلى مستوى من جودة السلعة وبأقل ما يمكن من التكلفة. أي العمل على تطبيق ISO 9000فعلياً، وليس مجرد الحصول على شهادة الآيزو، التي تراءى للبعض أنها المفتاح السحري لدخول الأسواق. إن تحقيق ذلك يتطلب بطبيعة الحال إدارة ذكية متبصرة، على قدر رفيع م الكفاءة في إدارة كل مرحلة من مراحل إنتاج السلعة أو الخدمة. وذلك بدءاً من توفير مستلزمات الإنتاج إلى إدارة المستودعات،إلى الخط الإنتاجي، بما في ذلك الصيانة المنظمة والرقابة الصارمة على الجودة، إلى التعبئة والتغليف والتسويق وخدمة ما بعد البيع، مع كل ما يستدعيه ذلك كله من حسن إدارة الأفراد واستنهاض قدراتهم وإدارة الشؤون المالية ومحاسبة التكاليف وأنظمة تدفق المعلومات MIS.
3 – 2 – 4. التكافؤ في شروط العمل بين سورية والدول العربية الأخرى
من الضروري إيجاد حد أدنى من التكافؤ في شروط العمل الاقتصادي بين الفاعلين الاقتصاديين السوريين وزملاؤهم العرب حتى تكتمل أركان المنافسة الحقيقية. وإلا فإنها تنتفي إذا ما وضعنا في السباق عداء مكبلاً بعديد من القيود والمحددات مع آخر طليق الحركة. وأبرز المجالات التي تتطلب إعادة نظر من أجل تحقيق التكافؤ المنشود، بالإضافة إلى ما سبق ذكره في معرض تعظيم التصدير، هي التي تخص:
- النظام الضريبي الذي ينبغي تطويره باتجاه التخفيض والتبسيط، مع الارتفاع بالأداء الضريبي عبر وضع ضوابط فعالة، تطبق بشفافية وعدل وتقترن بمؤيدات حازمة.
- تطوير النظام الجمركي سواء من حيث التعرفة الجمركية لتكون أكثر كفاءة وعدلاً أو من تبسيط الإجراءات والمعاملات، أو من حيث القضاء على التلاعب بفواتير المستوردات.
- النظام المصرفي الذي يستلزم تطويراً جذرياً كما سنرى فيما بعد.
رابعاً: تطوير مناخ الاستثمار
لم ينجح قانون الاستثمار رقم /10/ في اجتذاب الاستثمار الوطني إلا في حدود ضيقة جداً ناهيك عن ضآلة حصة المشاريع الإنتاجية أو الخدمية التي تساهم فعلاً في زيادة القيمة المضافة. كما أن الاستثمارات الأجنبية ظلت شبه معدومة. وباختصار فقد خابت الآمال التي كانت معقودة عليه بالرغم من الامتيازات الضريبية الممنوحة. وتبين بجلاء أن هذه المقومات لا تشكل أكثر من عنصر من كل لا يتجزأ، وقد لا يكون أكثر العناصر أهمية، ولا بد من ثم، من توفر عدد من المقومات الأخرى لا يستهان بأي منها، والتي إذا ما وجدت معاً، أمكن القول بتوفر مناخ مناسب للاستثمار يسمح للقطاع الخاص السوري أن يوظف الاستثمارات بوتائر تتحسن تدريجياً مع تصاعد الطمأنينة والثقة بالمستقبل وانحسار حالة عدم اليقين. ويمكن تكثيف هذه المقومات بخمسة:
4 –1. البنى التحتية تفتقر سورية إلى المناطق الصناعية المتكاملة التي تشتمل على جميع المرافق وتتكامل فيها كافة الخدمات، بما فيها توفر منطقة جمركية حرة يتم فيها تخليص السلع المستوردة أو المصدرة، وترتبط بشبكة الطرق البرية والسكك الحديدية. إذ لم تعد المناطق الصناعية مجرد مكان تتجمع فيه الصناعات بعيداً عن المناطق الحضرية أو الزراعية، وإنما مراكز جذب للاستثمار الوطني والأجنبي. ويجب توجيه موارد التعاون الفني الثنائي مع الدول الأجنبية، والأوربية بالذات، إلى تنفيذ هذه المناطق وخاصة مع فرنسة وإسبانية المشهود لهما بالنجاح في هذا المجال, ومن جهة أخرى لا بد من توفير خدمات البنية التحتية الضرورية للاستثمار من كهرباء وماء وهاتف وصرف صحي، بالإضافة إلى البريد الإلكتروني والإنترنت, بأقصى سرعة ممكنة وبأيسر السبل، ووجود موانئ بحرية وجوية تعمل بكفاءة عالية.
4 – 2. تكوين الموارد البشرية
في دراسة قام بها البنك الدولي شاملة 122 دولة استهدفت معرفة مدى إسهام العوامل المختلفة في الإنتاجية، تبين أن 64% تعزى لرأس المال البشري. وعلى هذا فقد أصبح توفر الكفاءات المزودة بالمعارف والمهارات الفنية والإدارية على كافة المستويات وفي مختلف الفعاليات الفنية والمالية والإدارية بما فيها السكرتارية، ركناً أساسياً وجوهرياً في المناخ الاستثماري المطلوب، ومن ثم فإن من الأولويات المطلقة إصلاح النظام التربوي والتعليمي وربط المناهج الدراسية في الجامعات والمعاهد بالحياة اليومية وبحاجات المجتمع الاقتصادية واستيعاب الخبرات والتجارب الفنية والإدارية التي مرت بها البلد. وإذا كان الإصلاح يستلزم وقتاً طويلاً، فما علينا إلا أن نزاوج في وقت واحد بين إصلاح القديم وإحداث الجدي، مثل:
- الإسراع باستكمال تهيئة المعهد العالي للإدارة ليبدأ عمله، مع التذكير بضرورة إدخال تعديلات أساسية على مرسوم إحداثه باتجاه الاستقلالية، كي يتمكن من تحقيق الآمال المعقودة عليه بتخريج كوادر الإدارة العليا التي نحن بأشد الحاجة لها.
- إنشاء معهد عالٍ للغزل والنسيج كما فعلت المغرب وتونس.
- ومن جهة أخرى تطوير إحدى مدارس أو كليات الهندسة بصورة جذرية لتكون معهداً عالياً كالبوليتيكنيك وبمستوى متميز. معيار الانتساب إليه هو الكفاءة من خلال النجاح في مسابقة الدخول، ولا يخالطه أي معيار ذاتي آخر. وكذلك تطوير المعاهد التجارية المتوسطة، أو بعضها على الأقل، لتخريج كوادر السكرتارية المتقنة لمبادئ تنظيم المكاتب والأرشيف وإحدى اللغات الأجنبية. إذ نفتقر بشدة لمثل هذه الكوادر.
4 – 3. تطوير الجهاز المصرفي
لا يمكن لأحد أن يتصور اقتصاداً يتحرك بشيء من الديناميكية بدون جهاز مصرفي فعال، الذي يعتبر عصب الحركة الاقتصادية. ونظراً لحالة التدهور القائمة التي تعصف بنظامنا المصرفي الحالي، تصبح قضية تطويره أولوية عاجلة. إذ يستحيل اجتذاب الاستثمارات الخارجية، وهي استثمارات المغتربين، في غيبة نظام مصرفي كفء. ومن ثم يكون ضرورياً القيام بالتالي:
- إعادة هيكلية المصرف التجاري السوري بهدف رفع كفاءته وتسريع إنجاز المعاملات المصرفية اليومية باستخدام الأتمتة تسهيلاً وتبسيطاً للمعاملات الورقية.
- إعادة السماح للمصرف التجاري السوري اللبناني بفتح فروع في سورية كما كان معمولاً في السابق حتى عام 1986.
- الإسراع بإقامة مصرف أعمال مشترك يساهم فيه القطاع الخاص ويديره وفق الأساليب في إدارة المصارف ليكون مؤسسة مالية كفوءة قادرة على استقطاب مدخرات السوريين في الداخل والخارج، وتنشيط العمل الاقتصادي والاستجابة لمتطلباته. وقد سبق لغرفة تجارة دمشق أن رفعت إلى رئاسة مجلس الوزراء مشروعاً بذلك.
- حقن هذه المصارف بودائع من صندوق المعاشات حتى يمكن توسيع التسهيلات المصرفية متوسطة وطويلة الأجل التي تمنح وفق الأسس المعمول بها عالمياً.
4 – 4. البنية التنظيمية والإدارة الكفوءة
لا يستطيع القطاع الخاص أن يلعب دوره كفاعل أساسي في تنفيذ خطط التنمية وتحقيق النمو، إلا إذا مارست الدولة بفعالية المهام المطروحة أمامها في وضع قواعد المنافسة لممارستها بكفاءة وحمايتها من سوء التطبيق، وفي التصدي بحزم للممارسات الاحتكارية والسلوكيات الساعية للكسب الريعي والربح غير المشروع، وفي تعبئة الموارد المالية لتوظيفها في استثمارات مجدية وتقوم بدعم وإرشاد وتنظيم أمور القطاع الخاص الناشئ (بمفهوم رجل الأعمال وليس السمسار) لمواجهة متطلبات المنافسة في السوق العالمية ورفع مؤهلاته لارتياد هذه السوق. وبمعنى آخر لا بد من توفر حكومية فعالية قادرة على:
- العمل في إطار استراتيجية اقتصادية واضحة توفر رؤية جلية للمستثمر ليستشف ما سيكون عليه المستقبل مما يسهم في ضمان صحة القرار ويزيد من الإقبال على استثمارات طويلة الأجل.
- تطبيق الأطر والتشريعات القانونية والتنظيمية بذكاء ونزاهة مع الأخذ بالاعتبار ضرورة تبسيط تلك التشريعات (بما فيها الضريبية وأحكام التجارة الخارجية والاستثمار وتدفق رأس المال).
- إيجاد المؤيدات التشريعية لتدعيم المناخ الاستثماري وإشاعة الثقة لدى الجميع من خلال جهاز قضائي فعال يطمئن له المواطنون والمستثمرون لحل المنازعات فيما بينهم، وبينهم وبين الأجهزة الحكومية عبر إجراءات قضائية سريعة وعادلة وتنفيذ فوري للأحكام الصادرة. وبحيث يسود جو من الانضباط يركن له المستثمر، ويثق بأنه لن يتعرض للابتزاز، ولن يضيع مالاً ووقتاً للحصول على حق يكفله له القانون.
4 – 5. الهيئة العامة للاستثمار
لقد أثبتت التجربة السورية بعد صدور قانون الاستثمار وتطبيقه على الوجه الذي نعرفه، أن الحاجة ماسة لإيجاد هيئة أو مؤسسة لترويج الاستثمار، ولا يقتصر عملها على مجرد التشميل، التي لا تعدو أن تكون مرحلة روتينية، ولكن تمتد إلى كافة مراحل الاستثمار من الترويج إلى التنفيذ مروراً بتوفير المعلومات. وهذا يقتضي أن تقوم بالتالي:
- توفير قاعدة المعلومات الاقتصادية الشاملة لمؤشرات الاقتصاد الكلي والمعطيات الخاصة بالاقتصاد الجزئي والقطاعي وهذه الأخيرة تقتضي إجراء المسوح الشاملة، التي يمكن في ضوئها معرفة الواقع الحقيقي وإمكانات الاستثمار المتاحة لكل من القطاعات وخاصة الصناعة والسياحة والزراعة هذا بالإضافة إلى المعلومات الخاصة بالتشريعات القائمة وأولويات الاستثمار وإجراءات تنفيذه.
- استشعار فرص الاستثمار وإعداد الجدوى الأولية أو حتى النهائية أحياناً عن هذه الفرص، بحيث تختصر جهداً على المستثمر وتنير له الطريق وقد تشكل بحد ذاتها حافزاً على الاستثمار.
- تجنب العقبات البيروقراطية وإعادة تنظيم إجراءات الترخيص والتعديل والحصول على كافة الخدمات المرتبطة بتنفيذ الاستثمار في اتجاه التبسيط والوضوح، بحيث ينتفي التبعثر المكاني ويؤخذ بمبدأ "النافذة الواحدة"، بمعنى اكتمال كافة الإجراءات في قاعة واحدة، تضم مكاتب لجميع الجهات الرسمية المعنية من وزارات ومصرف مركزي ومؤسسات الخدمات العامة (كالطاقة والاتصالات)، ويكون كل منها مخولاً بالبت فيما يعرض عليه، كما فعلت تونس وتبعتها ساحل العاج وأخيراً لبنان والأردن.
الخلاصة
- إن الشراكة الحقيقية بين الدولة والقطاع الخاص أمر حيوي وبالغ الأهمية. كما أن مفهوم "الأمة المؤتلفة"، حيث يعمل كل من الحكومة والقطاع الخاص والنقابات والمنظمات غير الحكومية –كفريق عمل واحد يردف ويرفد بعضه بعضاً- يمثل أداة ذات شأن حاسم للنمو وللتنمية. غير أنه يجب أن نحذر جداً من تردي هذه العلاقة إلى تحالف موبوء بين الحكومة وجماعات المصالح Interest Groupsمن القطاع الخاص. إذ يفترض بالحكومة أن تظل حيادية لا تتحيز لقطاع أو لشركة ما في الخفاء أو العلن.
- إن جودة أداء الدولة على مستوى الاقتصاد الكلي، وحسن أداء القطاع الخاص على مستوى الاقتصاد الجزئي هما عاملان متكاملان، يشكلان معاً طرفي المعادلة، ولا تقل أهمية أحدهما عن الآخر. فهما وجهان لعملة واحدة ووحدة المصير تشمل كليهما.
- إن الاستثمارات الأجنبية المباشرة على أهميتها ليست بديلاً للاستثمار الوطني وإنما تتممه.
- لا يستطيع بلد أن ينهض باقتصاده ويستقطب الاستثمار الوطني أو الخارجي إلا إذا كانت لديه سياسات تتسم بالتماسك والاتساق والشفافية والقابلية للتنبؤ.
- يجب أن تندرج هذه السياسات في استراتيجية اقتصادية اجتماعية متكاملة، من خلال شمولية، تتميز بوضوح الأهداف، وجلاء السياسات والإجراءات والسبل المحققة لهذه الأهداف، وتبرز مراحل التنفيذ، وتحدد وتجدد المؤسسات القادرة على تنفيذها بحزم ونزاهة. إن إنجاز هذا العمل هو حتماً بالنسبة لسورية، أكثر الأمور إلحاحاً واستعجالاً.
د. خالد عبد النور
تعقيب الأستاذ رياض سيف
على محاضرة السيد الدكتور خالد عبد النور والتي عنوانها
"القطاع الخاص في سوريا: من الحماية إلى المنافسة"
بداية أتوجه بالشكر العميق للقائمين على ندوة الثلاثاء الاقتصادية التي أصبحت أحد أهم منابر الحوار الديمقراطي لقضايا اقتصادنا الوطني كما أتقدم بالشكر وفائق الاحترام إلى الباحث الدكتور خالد عبد النور على المحاضرة القيمة "القطاع الخاص الصناعي من الحماية إلى المنافسة" فهو موضوع شديد الأهمية في هذه المرحلة التي تقف فيها صناعتنا الوطنية أمام امتحان صعب، وعلى الرغم من أن هذه المحاضرة هي ليست الأولى في هذا المجال ولكن أهميتها تزداد بسبب دقة هذه المرحلة من خلال ازدياد حجم التحديات وقرب الاستحقاقات في أسواقنا المحلية وأسواق التصدير، حيث بات أمراً مصيرياً إنقاذ صناعتنا الوطنية وما يزيد من أهميتها أنها تأتي في وقت تتسلم فيه الحكومة الجديدة مهامها مفعمة بزخم الإصلاح وقد أعطتنا الانطباع بأنها جادة في إيجاد الحلول الناجعة لإزالة ما تراكم من معيقات في وجه تطور اقتصادنا بالاتجاه الصحيح.
أنني اتفق مع السيد المحاضر بالعموميات التي أوردها عن وقع القطاع الخاص الصناعي في الفترات الماضية دون أن يخوض في التفاصيل الدقيقة وخاصة النفسية منها التي تركت القائمين على هذا القطاع يعيشون في قلق دائم وقد لا أختلف معه في مجمل ما طرحه من حلول ولكن لابد لي من طرح بعض النقاط التي أغفلت والتي أرى أنها يمكن أن تغن وتكمل المحاضرة عسى أن نحقق بصورة أفضل هدفنا المشترك في إنقاذ القطاع الخاص الصناعي.
كما أني أختلف مع السيد المحاضر في بعض النقاط الجوهرية فيما يتعلق بمساهمة الدولة في القطاع الإنتاجي والقطاع المشترك وتحديد مفهوم الحماية.
وبما أن صاحب العلاقة في هذا البحث هو القطاع الخاص الصناعي الذي يناط به مهمة الدفاع عن أسواقنا المحلية وتصدير منتجاتنا للعالم الخارجي وتوفير ما نحتاج من فرص للعمل وزيادة في الناتج القومي فمن البديهي أن نعطي اهتماماً أكبر لتوصيف وضعه الراهن والوقوف على أسباب ما أصابه من تشوهات لنعمل على إصلاحها ومساعدته على امتلاك الوسائل اللازمة الكفيلة بتمكينه من استعادة القدرة على المنافسة كي لا يكون الطرف الخاسر فيما ينتظره من معارك طاحنة في أسواقه المحلية وأسواق التصدير.
وللوصول إلى صورة واضحة عن هذا الواقع لابد من المرور على المناخ الذي تربى فيه هذا القطاع وأسباب ما وصل إليه من ضعف وما أصابه من تشوهات.
بعد موجتي التأميم والمصادرة للشركات الكبيرة والمتوسطة في عامي 61-65 بات واضحاً أن مهمته قد تحددت في دور هامشي أقرب ما يكون للقطاع الحرفي، وقد توضح ذلك في السنين اللاحقة من خلال الكثير من القوانين والقرارات التي كانت تهدف إلى تحجيم القطاع الخاص الصناعي حيث تم التحكم بالتراخيص الصناعية بما يخدم الهدف وتم حصر وتقنين كافة المواد الأولية ووضعت الحواجز أمام استيراد الآلات الصناعية ومنع أية تسهيلات مصرفية ضرورية وعدم تخصيص أية مناطق صناعية مجهزة بالبنية التحتية ورفع الشرائح الضريبية لتصل حتى 93% والتدخل المباشر في تسعير منتجاته المطروحة في السوق المحلي والتي كثيراً ما كانت تقل عن أسعار التكلفة وتسليط السيف على رقبته من خلال محاكم الأمن الاقتصادي وقانون الغش والتدليس والمرسوم 24 الخاص بتداول القطع الأجنبي وغيرها من القوانين التي هو مجبر على مخالفتها أو يمكن أن تلفق له بسهولة التهم عن طريقها.
في هذا الجو من الحصار تطورت لدى القطاع الخاص الصناعي انطلاقاً من غريزة الحرص على البقاء أساليب جديدة للتحايل على هذا الواقع والقفز فوق الممنوعات مما أدى إلى تفلته من الكثير من أخلاقه وثقافته الصناعية العريقة ليستعيض عنها بالشطارة والبهلوانية فترسخت في ذهنه الأنانية واتباع أسلوب أضرب واهرب كونه يعيش حالة من القلق الدائم فهو مضطر لارتكاب المخالفات ولا يأمن ما يخبأ المستقبل له وما يحمل له من مفاجآت.
لقد فرض هذا الجو على القطاع الخاص الصناعي التستر والعمل في الظلام فلا يصدر فواتير حقيقية لمبيعاته ومشترياته ولا يظهر أية أرقام عن رأسماله أو عدد العاملين في منشأته ولا يقدم أي ميزانيات نظامية تفادياً لضريبة قد تأتي على كل الربح وتزيد.
إن مزاولة القطاع الخاص لعمله في هذا الجو من السرية والكتمان فرض عليه الاعتماد كلياً على الأقربين من أفراد العائلة مستغنيا عن اختيار الأكثر كفاءة من أصحاب الاختصاص خشية أن يبوحوا بأسراره ويعملوا على ابتزازه وأصبح يبتعد ما أمكن عن الوضوح وتدوين أرقامه الحقيقية حتى داخل منشأته خشية أن تتسرب أي من تلك الأوراق والتي تسوقه إلى السجن أو تضطره إلى دفع المبالغ الطائلة تفادياً لذلك.
حتى بعد صدور القانون10 لعام1991 وعلى الرغم من رغبة الحكومة في التشجيع على الاستثمار في الصناعة فإن خطواتها ظلت خجولة ومترددة في تحسين المناخ غير الطبيعي الذي يحيط بنشاط القطاع الخاص الصناعي.
واستمر هذا القطاع على الرغم من ازدياد حجمه يحمل تشوهاته وأمراضه المزمنة على الرغم من التبدل الجذري الذي طرأ على بنية الاقتصاد المحلي والإقليمي والدولي والذي فرض على هذا القطاع تحديات كبيرة لا قبل له في مواجهتها.
إن جملة الظروف المحيطة بالقطاع الخاص الصناعي انعكست على زيادة تكاليفه بشكل كبير حتى باتت أسعار الجملة للمنتجات الوطنية مثل المفروشات الخشبية والمعدنية والأدوات المنزلية والكثير من أصناف الملابس والأحذية والمنظفات ومستحضرات التجميل والمنتجات الغذائية المصنعة وأدوات المطابخ تزيد بنسبة كبيرة عن أيعار مثيلاتها في الدول العربية والعالمية.
ساهم بتعويض عن ما لحق بهذا القطاع من ظلم ومعاناة تمكينه من احتكار السوق المحلي تحت شعار "حماية الصناعة الوطنية" فاستطاع استرداد كل ما دفعه من تكاليف طفيلية وكل التكاليف الناتجة عن الهدر وضعف المردود وجملة الأخطاء المرتكبة.
ولكن هذه الحالة غير الطبيعية بدأت تتبدل بشكل سريع في السنوات الأخيرة للأسباب التالية:
-بدأت القوة الشرائية تتقلص بشكل حاد في السوق المحلي.
-بدأت منتجات دول منطقة التبادل الحر العربية تغزو أسواقنا بينما وقفت منتجاتنا الصناعية عاجزة عن دخول أسواقها.
-اشتدت المنافسة في السوق العالمية وخاصة سوق الاتحاد الأوربي كما أصاب الضعف العملات الأوربية مما أدى إلى تراجع صادراتنا المصنعة بشكل ملحوظ.
إن هذه العوامل الثلاثة سببت أزمة حادة للقطاع الخاص الصناعي زاد فيها حجم مخازينه وتقلصت نسبة أرباحه مما اضطر الكثير من منشآته إلى التوقف أو تقليص طاقاتها الإنتاجية وتسببت بعجزه عن الوفاء بالتزاماته وقد قدر خبير مطلع بأن القطاع الخاص الصناعي يعمل حالياً بربع طاقته الإنتاجية فقط.
إن هذا الواقع الأليم الذي تواجهه صناعتنا الوطنية منذ عدة سنوات لم يكن غائباً عن اهتمام الباحثين وغرف الصناعة والتجارة وبعض أعضاء مجلس الشعب ورجال الأعمال، ولكن لسبب يستعصي على الفهم ظلت الحكومة السابقة ترفض الاعتراف به وتصر على المكابرة والتحدث عن إنجازات وهمية والتستر على كل الأرقام والمعطيات التي تظهر تفاقم الوضع في القطاعين العام والخاص إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه الآن.
لقد بات لزاماً علينا التحرك بكل ما نملك من قوة وتصميم وإدراك لإنقاذ الصناعة الوطنية بحماية المنشآت القائمة من الانهيار وإعادة تشغيلها بطاقتها الطبيعية وخلق المناخ الضروري لتوسيع المنشآت القائمة وإقامة منشآت جديدة قادرة على المنافسة.
إن هذه المعاناة والمصاعب الشاقة والقلق الدائم التي يعيشها الصناعيون جعلت الاستثمار في الصناعة مسألة محفوفة بالمتاعب والمخاطر مما أدى إلى تناقص الاستثمار في السنوات الأخيرة كما أورد السيد المحاضر وبتنا جميعاً نسمع عن هجرة الصناعيين لإقامة مشاريع في الدول العربية الشقيقة وغيرها من دول العالم وهذا ما تؤكده الأرقام التي تشير إلى أن مجموع الاستثمارات البينية العربية التي استقبلتها سورية خلال الفترة 82-98 هي 436 مليون دولار في حين بلغت الاستثمارات السورية في البلدان العربية في نفس الفترة 1.3 مليار دولار أي ثلاثة أضعاف ولهذا أشعر إن من واجبنا الوقوف إجلالاً وإكباراً لكل الصناعيين الذين تمكنوا من الصمود، وأن نرثي لحال مستهلكنا المسكين الذي وقع عليه عبء دفع ثمن كل ما ارتكبناه من أخطاء، ولكن تآكل دخول النسبة العظمى من المستهلكين وتراجع الصادرات وتدفق بضائع الدول العربية لأسواقنا وتكدست مخازين مصانعنا وانخفاض الأسعار كما وجدت صناعتنا الوطنية نفسها وجهاً لوجه أمام منافسة غير عادلة مع بضائع الدول العربية الشقيقة.. فهل نتركها تستسلم لقدرها المحتوم.
في سياق المحاضرة تعرض السيد المحاضر بالتحليل لإيجابيات وسلبيات الحماية وفهمت من كلامه وكأن حماية الصناعة الوطنية هي فقط في منع استيراد أو فرض رسوم جمركية مرتفعة على السلع والمواد المثيلة وقد سلم المحاضر بأن هذه الحماية كانت عاملاً محفزاً للاستثمار وساعدت على قيام العديد من المنشآت في مجال الصناعات الغذائية والنسيجية والأدوات الكهربائية المنزلية مع أنه يرى في الوقت نفسه إن هذه المنشآت تمكنت من تحقيق أرباحاً خيالية بحيث أصبحت دخلاً ريعياً وضرب لنا مثلاً عن منشأة مشروبات غازية اضطرت إلى تخفيض أسعارها حتى 50% بعد رفع الحماية عنها ويضيف معلقاً على ذلك أن ربح المستثمر مالياً من الحماية على حساب المستهلك والمجتمع ومع ذلك فهو يرى أن توفير حد مناسب من الحماية للصناعة الوطنية ضروري في البداية وهو أحد أهم واجبات الدولة.
أني أعتقد أن أي حماية أساسها السماح للمنتجات باحتكار السوق هي ضارة بالنتيجة وأن الحماية الحقيقية تتمثل بإقحام المنتجات المحلية بشكل متعمد في منافسة متكافئة ليشتد عودها وتطور أساليب إنتاجها.
إن واجب الدولة في الحماية، يجب أن يتمركز في المجالات التالية:
1-حماية الصناعيين وحفظ كرامتهم بتحصينهم من كل أنواع الابتزاز وتحريرهم من القلق والخوف ليصبح عملهم في منشآتهم متعة وليس مخاطرة.
2-رصد مبالغ إضافية في الموازنة للتعليم والبحث العلمي بما يضمن تخريج كوادر وطنية وخبرات فنية مؤهلة ومدربة.
3-تشجيع الشركات على إدخال الأساليب العلمية في التصنيع واستخدام التكنولوجيا من خلال تقديم تسهيلات وإعفاءات مالية لتلك الشركات.
4-توفير المناطق الصناعية المجهزة بكل عناصر البنية التحتية اللازمة لخفض تكاليف إقامة المنشآت الصناعية وإيقاف تبعثر تلك المنشآت في مناطق المخالفات السكنية والأراضي الزراعية وما ينتج عنه من أضرار وتكاليف.
5-العمل بمبدأ تعويم استيراد احتياجات المنشآت الصناعية من جميع المواد ومستلزمات الإنتاج والآلات والتجهيزات وقطع الغيار وعدم تحمياها أية رسوم جمركية وإنجاز عمليات تخليصها الجمركي عن طريق طريق ما يسمى بالخط الأخضر أي خلال ساعات.
6-تقديم كل الخدمات والتسهيلات المصرفية مع التحكم بالإقراض ونسب الفائدة حتى نترجم عملياً سياسة الدولة في حماية الصناعة الوطنية وهذا يستوجب تخصيص الإعانات اللازمة في الموازنة لإقامة مصرفاً خاصاً بالتنمية الصناعية بفوائد تشجيعية.
7-تنظيم عمل المنشآت الصناعية من خلال حزمة متكاملة من القوانين الحكيمة تحدد بشكل واضح واجبات القطاع الخاص الصناعي وحقوقه فنحميه من الابتزاز ونفرغه للعمل فيبدع وينتج وينافس.
8-توجيه وتشجيع إقامة المنشآت الصناعية في أماكن تواجد العمالة في المدن الصغيرة والأرياف حتى نحد من الهجرات الكثيفة باتجاه العاصمة والمدن الكبيرة ونساعد أيضاً في خفض تكاليف المعيشة الإضافية التي يتحملها أبناء تلك المناطق عند هجرتهم للعمل في المدن الكبيرة والتي تنعكس بالنتيجة على زيادة تكاليف الإنتاج.
9-أن تعمل الدولة على إقامة حاضنات صناعية تتيح الفرصة لكل من يملك الخبرة والجرأة والقليل من المال على إقامة خلية صناعية يتوفر لها فرصة النمو والتوسع.
10-أن تسعى الدولة لإبرام اتفاقيات تجارية تتيح لمنتجات الصناعات الوطنية بالتدفق إلى الأسواق العربية والعالمية دون حواجز.
11-أن توفر الدولة المناخ الطبيعي لتفعيل وتسهيل عمليات النقل البري والبحري والجوي بخطوط منتظمة وأسعار منافسة.
12-التوقف عن العمل بالنظام الضريبي العرفي القائم ووضع نظام ضريبي وطني يساهم في تنمية المطارح الضريبية الحالية وخلق مطارح ضريبية جديدة من خلال توفير العدالة وتوجيه الاستثمارات نحو المشاريع المنتجة.
13-تصحيح العلاقة القائمة بين المنشآت الصناعية القائمة وموظفي الدولة المخولين بإنجاز معاملاتهم لنقلها من علاقة استثمار الموظف لحقه بالتوقيع إلى علاقة حرص الموظف على تسهيل وتبسيط معاملات المنشآت الصناعية وإنجازها بالسرعة الكلية حرصاً على استمرار خطوط إنتاجها وللوفاء بالتزاماتها.
عندما تتوفر هذه الشروط فإن صناعتنا الوطنية تصبح قادرة على دخول أية منافسة متكافئة وقادرة على الدفاع عن حصتها في الأسواق المحلية والانطلاق نحو الأسواق العربية والعالمية دون الحاجة إلى أي احتكار ولا حتى إلى الإعفاءات الضريبية لأن في هذه الحالة سنبقى نملك ميزة نسبية هامة وهي كون شعبنا شعب حضاري يملك مخزونات ثقافية وأخلاقية تؤهله للتميز في الإنتاج والإبداع.
على الرغم من أن عنوان المحاضرة يوحي بأنها مخصصة لانتقال القطاع الخاص الصناعي من مرحلة الحماية إلى مرحلة المنافسة إلا أن المحاضر وجد من الضروري البحث عن علاقة تكاملية بين العام والخاص، حيث أنه سعى لإيجاد المبررات لأهمية دور المؤسسات الاقتصادية الإنتاجية في القطاع العام وحاول جاهداً وضع صورة مشرقة لما يمكن أن تؤديه من دور إذا ما توفر لها المناخ المناسب وأكد على ضرورة توسيع القطاع المشترك وضرب مثلاً على نجاحاته في قطاع السياحة.
أني أرى في هذا التوجه نحو القطاع العام والمشترك استمراراً لما اعتدنا عليه من هروب في مواجهة القضايا الصعبة والاكتفاء ببذل كل الجهود لتبرير استمراريتها وعدم استفزاز الجهات المعنية والقائمة على إدارة هذه القطاعات بغض النظر عن الأرقام والنتائج التي تؤكد ضرورة وقف النزيف واللجوء إلى العمل الجراحي أحياناً والذي قد يكون مؤلماً في الكثير من الحالات وبهذا الأسلوب مازال يجري تبرير تخصيص مبالغ طائلة من أموال الموازنة لبناء مشاريع جديدة في مجال قطاع الغزل مثلاً وترميم ما تلف في معامل الغزل والنسيج والصباغ في الوقت الذي تتراكم فيه مخازن المؤسسة العامة النسيجية حتى زادت عن 15 ل.س بأسعار التكلفة في حين أن قيمتها الحقيقية لا تساوي بضع مليارات كما أن مثال تبرير استمرار عمل الشركات العامة للبناء على الرغم من تحولها إلى ركام من الآليات الخردة وحوالي مائة ألف مهندس وعامل شبه عاطلين عن العمل لتنفيذ مشاريع لا تغطي إلا جزء بسيطاً من طاقتها البشرية وعندما نتحدث عن هذا القطاع بتيارى المدافعون عنه بتجميد ما حقق من إنجازات في عقود خلت.
وعندما نتكلم عن القطاع العام الرائد وتمنحه الكثير من القدسية دونما تفريق بين مؤسسات فاعلة مثل مصافي تكرير النفط ومعامل الإسمنت وبين القطاعات الخاسرة مثل معامل الورق والكبريت والإطارات والبطاريات والجرارات والنسيجية والغذائية والهندسية والشركات العامة للبناء، حتى اكتسبنا كل المهارات في قلب الحقائق وتحويل أي من إخفاقاتنا إلى إنجاز كبير.
واسمحوا لي أن أعرض عليكم المثال التالي المضحك المبكي حيث نشرت تشرين في 3/2/1997 بشرى سارة بعودة شركة الصناعات الحديثة بعد توقف دام 10 سنوات.. ولكن بالاعتماد على الذات…
ورد في المقال في محاولة جادة من قبل الجهات المعنية للارتقاء بشركات ومعامل القطاع العام إلى المستوى الأمثل خاصة شركات قطاع الغزل والنسيج وأخص بالذكر الشركات المتوقفة وشبه المتوقفة… ولكي نكون صادقين فقد أعطت هذه المحاولات الجادة دفعاً لا بأس به… ويتابع .. نخص بالذكر شركة الصناعات الحديثة وللذين لا يعرفون هذه الشركة نقول أنها كانت في يوم من الأيام تنتج أجود وأفضل أنواع الأقمشة التي كانت تنافس الأجواخ الأجنبية في السوق المحلي (قبل التأميم) وكان الطلب المتصاعد عليها يؤكد مكانتها وكان الطموح والاستمرار في العمل بنفس هذه الجودة والمنافسة ولكن…. وللأسف فقد توقفت الشركة عن العمل والإنتاج مدة تزيد عن عشرة أعوام لعدم توفر المادة الأولية للتشغيل …انتهى.
هل الاستمرار بهذا الأسلوب في الدفاع عن القطاع العام ممكن في عام 2000 وما بعده؟ وهل يصب هذا في مصلحة الاقتصاد الوطني؟
أني أرى أنه قد آن الأوان للوقوف أمام الحقيقة وجهاً لوجه وإجراء دراسة دقيقة وموضوعية لكل منشأة اقتصادية في القطاع العام على حده، واتخاذ القرارات الضرورية بشأنها بما يحقق أفضل جدوى اقتصادية ممكنة إما بتفعيلها كمؤسسة اقتصادية أو بتحويلها إلى شركة مساهمة أو إغلاقها ووقف النزيف مع الحرص الشديد على إعطاء العمال المسجلين على ذمتها كل حسب ما يستحق من التعويض و الرعاية.
دعونا نتحدث بكل جرأة وصراحة واضعين نصب أعيننا مصلحة الوطن والمواطن إذا كان سبب وجود القطاع العام الإنتاجي هو توفير فرص عمل شريفة تؤمن الحياة الكريمة للعاملين، وتحقيق فوائد اقتصادية ترفد الخزينة وتزيد في الناتج القومي… فهل حققنا النسبة المقبولة من هذين الشرطين أو من أحدهما؟
أني أعتقد أن الظروف المادية والنفسية والصحية التي يعيشها العاملين في القطاع العام عجزت عن تحقيق الحد الأدنى المطلوب بينما أصبحت خسائرنا المادية في العديد من شركات هذا القطاع تزيد كثيراً عن مجمل ما يتقاضاه العاملون في تلك الشركات من أجور.
أما الدعوة إلى توسيع وتطوير القطاع المشترك فاسمحوا لي أن أقول وبكل صراحة، أن من يتسنى له أن يقف على خفايا هذا القطاع لابد أن ينتابه الذهول والقشعريرة حيث تمكن فيه عدد قليل من أصحاب المصالح الخاصة العبث بأموال الدولة وأموال من غرر بهم من المساهمين وإذا كان في هذا القطاع استثناء في شركة أو اثنتين حققت نتائج إيجابية فإن كل الشركات المتبقية أخفقت إخفاقاً كبيراً وتسببت بضياع مليارات الليرات السورية تلبية لفائدة عدد محدود لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة وأن شركة كيما أوضح مثال على ذلك.
إن هذا القطاع هو قطاع مفتعل بغالبيته وهجين في تكوينه بجمع مساوئ القطاعين العام والخاص ولابد من معالجته ووضع حد للتجاوزات فيه.
إن الحل البديل الذي يكفل تحقيق نهضة اقتصادية هو خلق المناخ القادر على تعبئة المدخرات والرساميل في شركات مساهمة قادرة على العمل بشفافية مطلقة يديرها أصحاب الكفاءات أسوة بالشركات المساهمة الكبيرة التي تم تأميمها و إن رقماً نشر هذا اليوم في صفحة تشرين يعطينا مؤشراً واضحاً عن مدى ما وصلت إليه صناعتنا الوطنية من ضعف نقلاً عن تقرير لغرفة تجارة دمشق تبين أن صادراتنا السلعية شكلت عام 1956 ما نسبته 26% من حجم الدخل القومي بينما لم تتعدى 6% في عام 1998 وإذا كان هذا الرقم صحيحاً فإنه يكفي لدفعنا إلى إعادة النظر بمجمل سياستنا الاقتصادية بكل ما يتعلق في القطاعين العام والخاص ويجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن أسواقنا في عام 1956 كانت مفتوحة لاستيراد جميع البضائع دون استثناء بينما في عام 1998 مازال القسم الأعظم من المنتجات السلعية ممنوعة من الاستيراد، ولو أننا وفرنا مناخ عمل الشركات المساهمة الحقيقية لما وقعنا في فخ جامعي الأموال ولما تحول الرأسمال الوطني للمضاربة في الأراضي والعقارات أو الهجرة خارج الوطن.
25/4/2000رياض سيف
التعليقات الجديده